معظم المتورطين في قضايا الفساد هم من صغار الموظفين المرؤوسين، وتكون مبرراتهم أنهم أجبروا على القيام بالأعمال غير النظامية بناء على توجيهات شفهية من قبل رؤسائهم

تعرّف السلطة في علم الإدارة بأنها الحق في اتخاذ القرارات، أو إعطاء التعليمات للمرؤوسين، ومصدرها الأنظمة والقوانين، وكذلك الوصف الوظيفي المعتمد لأي منصب إداري، بالإضافة إلى علاقات العمل بين الرئيس ومرؤوسيه.
ونظراً لأن السلطة يكفلها النظام لشاغل الوظيفة وتتضمن مسؤوليات قانونية، فإن بعض المسؤولين والمديرين يزعجهم تقييد سلطاتهم الإدارية بالقواعد والقوانين، لأن في ذلك تهديداً لسطوتهم وجبروتهم، وتعطيلاً لمصالحهم الشخصية، لذا ابتكروا وسائل وطرقا لتجاوز الأنظمة حتى يستطيعوا فرض سيطرتهم في قمع وإذعان المرؤوسين.
ومن هذه الطرق التوجيهات أو التعليمات الشفهية، ففي بعض التحقيقات المتعلقة بقضايا الفساد –على سبيل المثال- نجد في الغالب أن المتورطين فيها هم من صغار الموظفين المرؤوسين، وتكون مبرراتهم أنهم أجبروا على القيام بالأعمال غير النظامية بناءً على توجيهات شفهية من قبل رؤسائهم، وذلك خوفا على وظائفهم ومصدر رزقهم، فالمدير الإداري يستطيع فصلهم أو نقلهم أو معاداتهم من خلال التصيد لأخطائهم أو عمل المكائد لهم، وبالتالي يستطيع المدير الإداري التنصل من مسؤولياته بكل سهولة، فليس هناك دليل مادي أو مستند رسمي يدل على تورطه في القضايا المشبوهة.
وللأسف فإن المتأمل في الحياة العملية داخل أروقة بعض الجهات الحكومية، سيجد أشكالاً وممارسات للاضطهاد والظلم الإداري تمارس بشكل يومي على الموظفين الذين ألفوا التعامل معها، بل قد يعتقدون أنها ممارسات نظامية وقانونية وهي من الواجبات الوظيفية التي لا غبار عليها، وبالتالي فإن من يخالف توجيهات المدير فسوف يتعرض للمساءلة القانونية لا محالة!
لا شك أن السلطات الإدارية تحتاج إلى مرونة في عملية التطبيق، وخاصةً في ظروف ومواقف معينة تتطلب التقدير الشخصي من المدير. كما أن التعليمات ليست بالضرورة أن تكون دائما مكتوبة ورسمية، والتي قد تعيق العمل الإداري في أية جهة حكومية، وما أتحدث عنه هنا في الحقيقة هو استغلال هذه النظرية في قمع الموظفين، والتطبيق المطلق للسلطات دون أدنى مسؤولية.
قد يتساءل البعض ويقول: كيف يمكن للرئيس أو المدير الإداري تجاوز نظام الخدمة المدنية في قمع الموظفين لإجبارهم على السمع والطاعة دون اعتراض أو مناقشة أو مساءلة؟
وكما ذكرت آنفا يستطيع المدير تجاوز الأنظمة عن طريق التوجيهات الشفهية للمرؤوسين، مستغلاً في ذلك ما يسمى في علم الإدارة بالسلطة التقديرية والمصلحة العامة أو العلاقات الوظيفية. فكما هو معلوم فإن نظام الخدمة المدنية المعمول به حاليا يتضمن قواعد وشروطا لكل وظيفة، بالإضافة إلى الشروط الخاصة بالترقيات وتقييم الموظفين والإجازات.
ولنأخذ على سبيل المثال تقويم الأداء الوظيفي، فهناك نموذج معتمد في النظام خاص بهذه العملية، يتضمن معايير معينة لقياس الأداء الوظيفي، يتم إعدادها من قبل المشرف المباشر على الموظف، ثم يتم اعتمادها من قبل المدير الإداري في الجهة، فإذا كان الموظف غير مرضي عنه لأنه قد يعترض ولا ينفذ رغبات المدير، أو يعترض على مسؤول إداري أكبر، فإنه يتم توجيه هذا المشرف شفهيا بإعطاء هذا الموظف معدل أداء متدن حتى وإن كان يستحق أعلى المعدلات، وإن رفض المشرف هذا العمل غير الأخلاقي فإنه أيضا قد يتعرض لنفس الممارسة، أو يتم توجيه خطاب لفت نظر إليه بسبب إخلاله بواجباته الوظيفية، وسوف يتم اتخاذ الإجراءات النظامية بحقه! والتي هي في الحقيقة غير قانونية، بل تعسفية وظالمة، والويل كل الويل إذا سولت له نفسه أن يستخدم حقه في التظلم من تقويم الأداء الخاص به.
وإذا خضع المشرف لرغبات المدير الإداري بسبب الضغوطات والتي قد تمتد إلى ترقيته بنفس الأسلوب، فكتب تقريرا غير موضوعي، فإنه يبرر فعلته أمام الموظف بأن ذلك تم بناءً على توجيهات المدير الإداري، وعليه أن يتفهم المثل القائل حكم القوي على الضعيف!
وفي المقابل، كان من المفترض أن تكون التوجيهات الإدارية تتعلق بكيفية الالتزام بمعايير قياس الأداء وتطويرها والتأكد من إعداد التقرير بموضوعية وبعيدا عن الشخصنة في عملية التقييم، ونشر الإحساس بالعدل بين الموظفين، بالإضافة إلى كيفية تحسين أداء وتطوير العمل في حالة وجود تقصير أو ضعف في أداء العمل، ولكن كما رأينا آنفا هناك من يتلاعب بالأنظمة وبالموظفين تحت ذريعة التوجيهات الإدارية، الأمر الذي يؤدي إلى انتشار الواسطة والمحسوبية والتملق والنفاق الإداري، وتمرير الأعمال المشبوهة وغير النظامية. وفي مثل هذا الوضع لك أن تتخيل ـ عزيزي القارئ ـ الفساد الإداري بكافة صوره وأشكاله.
وإن وجد من الموظفين من له رأيه وشخصيته المستقلة وقيمه وأخلاقه، والذي لا يبالي بتهديدات مديره الإداري، ويعترض على التصرفات الاستبدادية أو على القرارات المخالفة للأنظمة فإنه سوف يكون محل اضطهاد المدير الإداري، وعليه سينال جزاءه، لأنه أخطأ في حق الرئيس ووقف منه موقفا معاديا، فهو ليس أكثر من موظف عنده، ويجب ألا يعصي له أمرا، وسوف يحرم من الترقيات والإجازات والترشيحات للبرامج التدريبية وغيرها، لتذهب إلى الموظف المطيع والمثالي الذي يفترض أن يكون قدوة لكل الموظفين.
في الواقع العملي هناك الكثير من التظلمات والشكاوى على بعض الرؤساء والمديرين في الجهات الحكومية، والعديد منها تثبت صحته، وتكون قرارات تعسفية وظالمة ومخالفة للقوانين، ولكن في الغالب لا تطبق العقوبات إن وجدت على المسؤول الحقيقي عنها، لأنها كانت توجيهات شفهية فيكون الضحية أحد المرؤوسين المشرفين، أو يكتفى ببطلان القرار الإداري، وربما تم تعويض الموظف المتضرر.
وبناءً على ما سبق فإن مشاكل الإصلاح الإداري وقضايا الفساد تتضاعف نتيجة لمثل هذه الظواهر التي في ظلها تضيع الحقوق وتزداد المظالم وتغيب الثقة في علاقات العمل، وتبقى الجهود في هذا المجال شكلية واستهلاكية يعجز أكثرها عن تحقيق أهداف التنمية.