لا يكفي أن تقوم وزارة الخارجية السعودية بإعلان مبادراتنا القيمة ومواقفنا الثابتة، بل عليها أن تبدأ في إعداد وتدريب فرق من خبراء الحوار لتوضيح مواقف المملكة من قضايانا المصيرية
في الآونة الأخيرة أخذت المملكة على عاتقها الالتزام بعدة مواقف مصيرية واضحة ونابعة من مبادئها الثابتة، فكان من أهمها التنازل عن مقعدها غير الدائم في الأمم المتحدة، والوقوف إلى جانب الحكومة المصرية الموقتة، ودرء الفتن الطائفية في الوطن العربي، وتوحيد صفوف دول الخليج العربية، ونصرة الشعب السوري ضد الطغاة.. هذه المواقف الجريئة أدت إلى ارتفاع وتيرة الانتقادات الحادة للسياسة الخارجية السعودية، وانتشار نزعة تشويه صورة المملكة في المحافل الدولية والفضائيات والصحف والمجلات.
من المستغرب حقاً أن نقف مكتوفي الأيدي أمام تشويه صورتنا وتضليل شعوبنا، بل من غير المعقول أن تراودنا القناعة بأن دول العالم على معرفة تامة بمواقفنا وأهدافنا ومبادراتنا. انشغال نصف وطننا العربي بإطفاء فتيل الفوضى الخلاقة التي تجتاح فصوله الأربعة، وخلود نصفه الآخر للنوم والراحة التي أخلت بموازين حقوقه، أدى إلى استئثار فئة من أنصاف (خبراء) الإعلام، قليلي الحيلة وفقراء المعرفة، بحصة الأسد في ميدان الفضائيات العالمية ومحافل المؤتمرات الدولية. أصبح من الواجب علينا التصدي لكل من يسيء لسمعتنا ومقارعة كل من يحاول تشويه مواقفنا. وهذا يتطلب تأهيل فرق خبيرة من القدرات المعرفية المتخصصة ونخب مؤهلة من الطاقات الإعلامية المميزة لتفويت الفرصة على الفضائيات المغرضة، التي ازدادت إصراراً في الآونة الأخيرة على دعوة أنصاف هؤلاء (الخبراء) المجتهدين لمحاورتهم على الهواء مباشرة ومواجهة أباطرة منتقدي سياساتنا الخارجية مما ضاعف من حدة تشويه صورتنا وتراجع مواقفنا في المحافل الدولية.
في عصر العولمة الفضائية أصبح العالم بأكمله قرية كونية صغيرة يتصارع في أجوائها أكثر من 2000 قمر اصطناعي، تعمل بسرعة الضوء على تحسين خدمات الاتصالات ومراقبة تحركات الدول ونقل الأخبار ونشر المعلومات بين كافة الشعوب لتطويع أفكارهم وكسب ولائهم، لذا أصبحت السياسة الخارجية لجميع الدول محكومة بقدرتها على حسن استخدامها للعولمة الفضائية وتحييد عشوائياتها لدرء مخاطرها. ولعل أفضل شاهد على ذلك تراجع مواقف بعض الدول الكبرى لإخفاقها في محاورة مناهضيها وفشلها في توضيح مواقفها.
لتفادي هذه النتائج المحبطة والتحديات المؤلمة لجأت معظم دول العالم المتقدمة والنامية والفقيرة على حد سواء إلى تعزيز سياستها الخارجية بوسائل العولمة الفضائية، فقامت باختيار أفضل خبرائها لتمثيلها في المؤتمرات الصحفية والمحافل الدولية ومقارعة خصومها في الفضائيات والصحف والمجلات العالمية، وأغدقت عليهم مواردها لتنمية قدراتهم المعرفية وتدريبهم على جرأة الحوار ولباقة المداخلة وأناقة المظهر وإتقان اللغات، ليصبحوا بارعين في تفنيد المزاعم وصد الإشاعات والدفاع عن المواقف.
عندما عزمت أميركا قبل 10 سنوات على غزو العراق، لجأت الحكومة الأميركية إلى تأسيس مجموعة من القنوات الفضائية العربية تحت اسم الحرة ودعمتها بميزانية مبدئية فاقت مليار دولار، وذلك لتوضيح الموقف الأميركي من هذا الغزو وتحييد رأي شعوب الوطن العربي.
وقبل إبرام اتفاقية البرنامج النووي بين مجموعة الدول (5+1) وإيران، قامت وزارات الخارجية الأميركية والأوروبية بإطلاق العنان لخبرائها في توضيح مزايا الاتفاق على شعوب العالم عامةً وشعوب منطقة الشرق الأوسط خاصةً من خلال نشر 1534 مقالاً صحفياً وطرح 144 دراسة استراتيجية وإنتاج 32 برنامجاً تلفزيونياً وعقد 20 ندوة سياسية واقتصادية واجتماعية. وتزامنت هذه الخطوات الأميركية مع قيام إيران بتعديل مسارها السياسي وتغيير حكومتها واستبدال كبير مفاوضيها بآخر يجيد التحدث بطلاقة بلغة الدول الغربية، إضافة إلى قيامها بتسويق مواقفها الداخلية (الثابتة) على فضائياتها التي فاق عددها 136 قناة تلفزيونية، 46% منها موجهة لعالمنا العربي.
وعندما أرادت إمارة دبي قبل 8 سنوات الفوز باستضافة المعرض الدولي اكسبو 2020، قامت دولة الإمارات ببناء أكبر مطار في العالم بطاقة استيعابية تفوق 160 مليون مسافر سنوياً، وأسست لبناء مدينة جديدة متكاملة بتكلفة 120 مليار دولار وتشييد 100 فندق من فئة 5 نجوم لاستيعاب 25 مليون زائر ومقيم، ووقعت عقد شراء 130 طائرة مدنية جديدة بقيمة 100 مليار دولار. كما اختارت إمارة دبي السفيرة الإماراتية لدى أميركا ريم الهاشمي، خريجة جامعة هارفرد الأميركية والتي تتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة، لتصبح وزيرة الدولة والعضو المنتدب للجنة العليا للمعرض الدولي، وذلك لبراعتها في السياسة الدولية ولباقتها في توضيح صورة بلادها ومعرفتها بقواعد تنظيم المعارض الدولية. فور استلامها عملها بدأت الوزيرة الإماراتية في توظيف قدراتها المحلية لحشد دعم المجتمع الإماراتي اللازم لاستضافة المعرض الدولي، فحصلت على ترحيب 99% من أصوات مختلف شرائح المجتمع ومكوناته. كما قامت باستخدام خبراتها الدولية في توجيه كافة المحطات الفضائية العالمية ومعظم المحافل الدولية لتعريف الدول بإمكانات إمارة دبي المميزة، مما أدى إلى حصولها في الأسبوع الماضي على أغلب أصوات 168 دولة، لتتفوق بذلك على منافساتها من المدن التركية والبرازيلية والروسية.
لا يكفي أن تقوم وزارة الخارجية السعودية بإعلان مبادراتنا القيمة ومواقفنا الثابتة، بل عليها أن تبدأ في إعداد وتدريب فرق من خبراء الحوار لتوضيح مواقف المملكة من قضايانا المصيرية، والاستفادة من معهد الدراسات الدبلوماسية لاستقطاب الخبرات الوطنية وتعزيز قدراتهم وبناء طاقاتهم وتوجيه إمكاناتهم لبناء كادر إعلامي متخصص للتحاور في الشؤون الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وحقوق الإنسان.
يجب ألا نترك ساحة الإعلام الفضائي والمحافل الدولية خالية من خبراء الحوار المخضرمين، حتى لا يتسلق على قنواتها كل من هب ودب من المجتهدين، ونفشل في توضيح مواقفنا العظيمة أمام العالم أجمع.