الكثير من دعاة التجديد للفقه لم يبنوا التجديد على منهج علمي صحيح، بل كان بعضهم يبني اجتهاداته على الذوق، أو مجرد العرض على العقل البشري القاصر

بعد منتصف القرن الهجري الماضي بدأت حركة مراجعة كبيرة لجميع المرويات والأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، أسهم فيها الكثير من العلماء وعلى رأسهم سماحة الشيخ ابن باز والمحدث الكبير الألباني رحمهم الله جميعا، وأسفر عن تلك المرحلة الكثير من الأعمال الضخمة التي ميّزت الحديث الصحيح من الضعيف، وأصبحت اليوم بجهود أولئك الأوائل معرفةُ الحديث الصحيح والضعيف أسهلَ ما يكون ولله الحمد.
وقد لاقى أولئك العلماء في بدايات عملهم استنكارا بلا شك، عندما يحكمون على أحاديث مشهورة ومعروفة بين الناس أنها ضعيفة! خاصة إذا وقع ذلك الإنكار على فقيه حَفِظَ واعتاد ذكر ذلك الحديث والاستناد عليه مثلا!
ولكن وللأسف أن الفقه لم يحْظ بنفس الدرجة من العناية لتنقيته وتجديد النظرة الفقهية، بشكل حديث ومتوازن مع الأصول العلمية للفقه والاجتهاد. بل إن أغلب من اهتم بتجديد بعض الرؤى الفقهية قد يُتهم ويُنظر إليه بازدراء كون عمله غير مرحب به!
نعم هناك الكثير من دعاة التجديد للفقه لم يبنوا التجديد على منهج علمي صحيح، بل كان بعضهم يبني اجتهاداته حسب الذوق، أو مجرد العرض على العقل البشري القاصر! الأمر المُنكر فقها وشرعا، ولكن لا يعني هذا أننا لا نحتاج إلى تجديد للفقه، بل والتجديد لطريقة تدريس الفقه والبحث الفقهي.
أذكر مثلا أحد الوعّاظ وهو يتحدث في موعظته؛ استطرد وقال إنه لا يجوز تسمية سوق الأحد نسبة ليوم الأحد، وإنما يجب أن تقول سوق لاحد بالتسهيل للهمزة، وذلك لأجل أنه لا يجوز إطلاق اسم الله الأحد على أي شيء آخر عنده! ولكن نسي الشيخ الكريم أن أحد أيام الله يوم الأحد، ولم ينكره حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم آنذاك!
وفي سياق الحوارات الساخنة التي رافقت موضوع قيادة المرأة للسيارة قبل نحو شهر تقريبا؛ تناقشت مع أحد الفضلاء وكان من بين كلامه أن استدل بحديثٍ لعائشة رضي الله عنها (في حديث الإفك) يصف فيه أنها ركبت الإبل فوق الهودج، ويريد بذلك أن النساء آنذاك كانوا لا يركبون الإبل إلا فوق الهودج الذي يحميهن من أعين الرجال!
والمشكلة أن حديث الإفك نفسه كما عند البخاري يذكر ركوب عائشة رضي الله عنها راحلة صفوان بن معطل بدون هودج بعد أن لحقت بالجيش، ولم ينكر عليها النبي عليه الصلاة والسلام ذلك!
المشكلة الكبيرة هنا هو بحث البعض في الأدلة بطريقة الانتقاء لأجل تأكيد صحة كلامه، أو ما اعتاد عليه وليس لأجل البحث المتجرد! ويعلم أي فقيه أن التشريع لا يكون إلا بشروط وضوابط، فمثلا في الموضوع السابق عندما يذكر النص أن عائشة ركبت الهودج (بغض النظر عن تكملة الحديث والأحاديث الأخرى التي جاء فيها ركوب النساء للدواب مطلقا) لا يعني الأمرَ بركوب الهودج للنساء، كما لا يعني أيضا أن كل النساء كنّ لا يركبن الراحلة إلا بالهودج! فيجب أن يأتي أمر أو نهي نبوي صريح لأجل أن يكون هناك تشريع.
والأمثلة كثيرة في هذا، ولكن لم أحبّذ ذكر الأمثلة الحساسة لتكون الفكرة أقرب للقبول.
أعود وأقول إن الأصل في الأشياء في الإسلام هو الإباحة والجواز، ولا يجوز الانتقال من ذلك الأصل إلى التحريم أو الوجوب إلا بنص ظاهر صحيح يدل على ذلك الحكم الجديد، وهذا يندرج على كل الحالات. كما يجب أن نكون متجردين في تناولنا للنصوص والبحث الفقهي، ولا يمكن أن نستفيد من هذه البحوث والدراسات الكثيرة إلا إذا كانت مبنية على التجرد والبحث الحر من كل عوامل التضييق والإكراه الحاصل من البعض.
يجب في هذا السياق؛ التأكيد على أن التجديد للفقه لا يعني التنكّر للنصوص الشرعية، أو تأويلها بما يخرجها عن مسارها، وإنما بفهمِها من خلال معناها الحقيقي، وغير المتعارض مع النصوص القطعية والأصول الكلية للإسلام. كما لا يكون التجديد أبدا بالانتقاص من إرثنا الفقهي الثري والعميق، وإنما بالترشيد إلى الطريقة الصحيحة للاستفادة منه وتنقيته من أي أفهام خاطئة.
نحن اليوم نعاني من مدرستين؛ الأولى لا تزال تكرر فقه التعصب المذهبي حتى لو خالف النص تعصبا لشيوخهم! ويأتي هنا من استبدل الأئمة الأربعة بفقهاء أو شيوخ أو تيار يتبعه ويقلدهم كما لوأنهم أحد الأئمة الأربعة أو ربما أشد!
والمدرسة الثانية؛ تعتني بالنصوص، ولكنها تشابه في تعاطيها للنصوص طريقة الظاهرية بسفسطة استدلالاتهم بالنصوص والالتزام بظواهرها بلا عقل ولا قياس ولا فهم! خاصة بعد انتشار مدارس تحفيظ السنة النبوية الشريفة، وهي بلا شك عمل جليل، إلا أن الحفظ المجرد للأحاديث لا يعطي صاحبه الغاية من الأحاديث وهو الفهم والعقل لها وربما حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه.
خلاصة القول هنا؛ أن من مقتضى التجرّد لله تعالى ألّا نتألّى على الله، وأن ننظر إلى النصوص والأدلة الشرعية بتجرّد، ونراجع اجتهاداتنا دوما بعرضها على آليات الاجتهاد الصحيح بموضوعية وتجرد، وهذه الدعوة لا تعني تجرد صاحبها، وإنما هي من بنات الأفكار التي أرجو أهميتها وضرورة طرحها، والله أعلم.