علينا أن نعي أن الدستور المصري الجديد، سيصدر في عصر الحداثة. وهو عصر تاريخي لا مكان للخرافات والشعوذة فيه. وأن صيرورة المجتمع، خاضعة للتحليل، ومعرفة الأسباب الكامنة وراء كل حدث
-1-
كان الفيلسوف البريطاني فرنسيس بيكون، والفيلسوف الفرنسي ديكارت، قد قاما قبل وضع الدستور البريطاني والفرنسي، بضبط اللغة الإنجليزية والفرنسية ضبطاً محكماً، بحيث تأتي مواد الدستورين المذكورين بلغة صحيحة، وسليمة، وواضحة، لا مكان فضاضا فيها للتأويل المعتاد.
فلا أداة لضبط الفكر غير ضبط لغة الفكر. فهناك في اللغة (الصواميل) والمفاتيح، التي تضبط مسار الفكر، ولا تدعه يترنح، ويتردد، وبالتالي يتفكك، وينهار.
من جهة أخرى نرى، أن التغيير هو الابن الشرعي للمستقبل والفاعل الحقيقي في المستقبل. وكانت مشكلة جماعة الإخوان المسلمين المصرية، والعربية، بشكل عام، أنهم خارج التاريخ الحديث، ومعطيات العصر الحديث، فسقطوا في وهم، أن التحرك يجب أن يكون بدوافع وذرائع ماضوية وليست مستقبلية، ففشلوا وسقطوا، فشلهم الذريع، وسقوطهم المريع.
فالماضي مضى، ولن يتغير. والمستقبل آت، وهو في اليد كالعجين، نُشكِّلُهُ كيفما شئنا، وكما نريد أن يكون، ليلائم عصرنا ومكاننا، ويخدم احتياجاتنا.
-2-
كانت الثورة الفرنسية عام 1789، نقطة تحول تاريخية في حياة البشر. فبعد الثورة الفرنسية، أصبح مفهوم الأمة – كما يقول الفيلسوف المصري المعاصر مراد وهبة - أنها جماعة من البشر متحدة بفعل عقد اجتماعي، هو ثمرة إرادة المعايشة المحكومة بقوانين تنطبق على الكل. ومن ثمَّ، اختفى مفهوم الأمة الذي كان قائماً قبل الثورة الفرنسية، والذي كان مستنداً إلى الدم والعِرق، وحلَّ محلَّه مفهوم الإرادة الملتزمة بمبادئ الجماعة السياسية. وبسبب هذه الإرادة الملتزمة، انفتحت آفاق الأمة على فضاء بلا حدود. ومن بين هذه الآفاق، أن الوطنية اختيار حر، يمكن فسخها إذا أراد صاحبها ذلك، كما يمكن فسخها إذا قام المواطن بخيانة العقد الاجتماعي.
ويترتب على ذلك المفهوم، أن يمتنع إخضاع الأمة لمعتقد مطلق، يسلب إرادة التعايش من أعضاء الجماعة السياسية، كما يسلب هذه الإرادة من وضع قوانين بشرية ملزمة لهم.
-3-
كما كان مفهوم الشعب من المفاهيم الأساسية في الفكر السياسي المعاصر، وفي لغة القانون، بعد أن شاع مفهوم سلطة الشعب كمبدأ من المبادئ الدستورية. ومع ذلك، فقد تعددت تأويلات مفهوم الشعب، بحيث يمكن حصرها على النحو الآتي:
1- معنى أن الشعب جزء من الجماعة السياسية. ومن شأن هذا المعنى، أن يضع الشعب في مستوى أدنى من الجماعات السياسية الأخرى، الأمر الذي يدفعه إلى معاداة هذه الجماعات.
2- أن يكون الشعب، في وضع متحد سياسياًّ، ومتميز عن الجماعات الأخرى.
-4-
ومع بزوغ الثورة العلمية والتكنولوجية، حلَّت الجماهير محلَّ الشعب. فلقد أفرزت الثورة الفرنسية ظاهرة جديدة، يُطلق عليها الظاهرة الجماهيرية، نسبة إلى اللفظ الإنجليزي mass، والذي يعني الجمهور. فيقال mass- society مجتمع جماهيري، mass- media وسائل إعلام جماهيرية، mass- culture ثقافة جماهيرية، mass – communication وسائل اتصال جماهيرية،mass - man إنسان جماهيري أي رجل الشارع.. الخ. وتبقى بعد ذلك النخبة، ووظيفتها تنوير الجماهير.
-5 -
ومن هنا نرى، أن يشدد الدستور المصري الجديد على العدالة، والمساواة، والحرية، ويكفل حق الحياة للجميع. وعلينا أن نعي أن هذا الدستور، سيصدر في عصر جديد هو عصر الحداثة بامتياز. وهو عصر تاريخي لا مكان للخرافات والشعوذة فيه. وأن صيرورة المجتمع، خاضعة للتحليل، ومعرفة الأسباب الكامنة وراء كل حدث. ويصبح التاريخ بذلك مرجعاً متعالياً، وليس معطى طبيعياًّ، يخضع له الإنسان خضوعاً مطلقاً. وبذا، يستطيع الإنسان أن يؤثر في التاريخ بالممارسة والعمل، وتوجيه التاريخ حسب رغباته ومصالحه.
-6-
كما أننا نتمنى، أن يُشدد دستور مصر الجديد، على التوازن بين قطب السلطة والإنتاج الوطني، وبين السعادة والتحرر في التطبيق الديموقراطي. والمحافظة على هذا التوازن، بوضع المعايير الاجتماعية الجديدة، على أساس من الحوار، والفعل التواصلي. ومن خلال ذلك، يعي الشعب أين الخطأ في النظريات والمقولات والمبادئ وتطبيقاتها، كما يعي كونية القيم، والحرية الذاتية. ويشعر المواطن من خلال ذلك كله، أنه لا يعيش في العصر الحديث من خلال التلفزيون، والفضائيات، والصحافة، والكتب.. الخ. وإنما يعيش في هذا العصر، من خلال قبوله به، أو بجوانب منه، أو من خلال رفضه لمعطيات هذا العصر؛ أي على المواطن أن يشعر، أنه يشارك في تكوين وتلوين نهاره، وليس في كونه مجرد زائر له، أو متفرج عليه.
-7-
وعلى الدستور المصري الجديد - خاصة – أن يضع ضوابط صارمة للانفجار السكاني المصري المخيف، الذي يلتهم – كالجراد - كل الإنتاج التنموي أولاً بأول في مصر، وفي بلد محدود الموارد الطبيعية كمصر، بحيث تبدو مصر بلا تقدم، وبلا نمو في الإنتاج الوطني، وتزداد مشاكلها يوماً بعد يوم. وعلينا أن نعلم، أن انفجار القنبلة السكانية من بين الأسباب الرئيسية لعدم الاستقرار السياسي، وعدم زيادة الدخل الوطني الفردي، وعدم الشعور بالراحة، والرفاهية، وبحبوحة العيش.
ولا شك، أن الانفجار الديمغرافي في بلد كمصر، يمكن أن يؤدي إلى إعاقة وعسر عملية المثاقفة التي شهدتها مصر في مطلع القرن العشرين، وفي الثلاثينات من القرن الماضي، وانتجت لنا طه حسين، وعبدالعزيز فهمي، ونجيب محفوظ، وأحمد شوقي، ومحمد عبدالوهاب، وأم كلثوم، والمثال محمود مختار وغيرهم.
فهل نقرأ غداً مواد في الدستور المصري الجديد، بهذه المعاني؟