'الطلعة' بلغة أهالي عسير هي أعلى نقطة في أعلى الربوة. وبين القاع والقمة أمور وصراع دنيوي رهيب، يأخذ الناس إلى أبعد مدى من 'التوهانات'، التي تعمل على تفسخ العلاقات الإنسانية
على رأس ذلك المطلع الوعر وفي قمته، يسكن المنزل المرتفع، يعصب عمامته بسحابة كثيفة، ربما يهطل عليه وابل من الخير، وحتما ستمطر في أحد الأيام، إلا أنه لا يدري متى، وكيف؟!
في راس الطلعة، يعجز الناس عن الوصول إلى هذا المكان، لكنهم يتمنون، وكل يحاول في سباق محموم، لكن الكثير يتساقطون في الطريق، فمنهم من تخور قواه، ومنهم من ينظر إلى أعلى فيفقد الأمل، لهول المنظر في عمق الأفق، وتُحبَط الأماني في جوف الصدور المعتمة! فيعلق في منتصف الطريق بين ربوة عالية وقاع سحيق. ومنهم من يرتضي بحياة الحَضَن السهل، فلا يحاول، ولا يخطر بباله حتى شرف المحاولة!
في راس الطلعة، أناس كثيرون وصلوا وسكنوا وتجانسوا، وأناس لم يمكثوا فيها سوى لحظات، ثم يتهاوون كأوراق الشجر في ليلة خريف!
في راس الطلعة، وريقات ترف في جوف الصخور، فلا تقوى عليها الرياح العاتية، التي عهدناها دائما تلوح فوق القمم الشاهقة فتهوى بكل كائن ضعيف لا يستطيع الصمود ولا يلوي على شيء!
في راس الطلعة، مكان مريح وممتع، لكنه مهلك؛ لأنه دائما أبدا في عراك مستمر، يعاند الريح وتقلبات المناخ، فلا نرى سوى زخات تتهاوى من بين طيات السحاب، تحلب المزن من ثدي السماء. فمنهم من ارتوى ومنهم من لا يمكث سوى ثوان فيهوى في مكان سحيق دون أن يعي!
والطلعة بلغة أهالي عسير هي أعلى نقطة في أعلى الربوة. فبين القاع والقمة أمور وصراع دنيوي رهيب، يأخذ الناس إلى أبعد مدى من التوهانات غير المحدودة، التي تعمل على تفسخ العلاقات الإنسانية في يومنا هذا، حتى بات الأخ لا يرى أخاه إلا فيما ندر من لمحة الزمن اللاهثة، في إيقاع متسارع أشد ضراوة من إيقاع قلوبها الدافعة لهذا الصراع المحموم!
لم يعد تلاقح الأفكار والأماني يدور بين البشر في إنسانية محِبة، بقدر تلك الأنانية في سيل من الدائرية التي تقضي على الأخضر واليابس. فلا نرى سوى تضخم الذات، التي لا ترى سوى ذاتها في مرآة مكبرة، لا تنتج إلا كاركاتير مشوها لكل من نظر فيها! وما إن وصل إلى القمة ـ إن أمكنه ذلك ـ حتى عاد يعاني من هول البرد القارس. وعلى سبيل المثال، فينسنت فان جوخ، الذي كان إنسانا رقيق الحس والوجدان، فلا يدع فقيرا ولا معوزا إلا حمل معه حسا رقيقا ووصاية محمومة بالود، فاشتغل بوصاية عمال مناجم الفحم وعوائلهم في قرية التعدين واسميس. شعر فينسنت بارتباط عاطفي قوي نحو عمال المناجم. تعاطف مع أوضاع عملهم المخيفة، وفعل ما بمقدوره كإنسان حي الشعور والعاطفة، شعبي لدرجة الذوبان، عمل على تخفيف عبء حياتهم. هذه الرغبة الإيثارية أوصلته إلى مستويات كبيرة جدا، عندما بدأ فينسنت بإعطاء أغلب مأكله وملبسه إلى الناس الفقراء الواقعين تحت عنايته. على الرغم من نوايا فينسنت النبيلة، حتى وصل الأمر إلى رفض ممثلي الكنيسة زهد فان جوخ بقوة وطردوه من منصبه. رافضا تركه للمنطقة، انتقل فان جوخ إلى قرية مجاورة تدعى كيوسميس، وبقي هناك بفقر كبير. في السنة التالية كافح فينسنت من أجل العيش، ورغم أنه لم يكن قادرا على مساعدة سكان القرية بأي صفة رسمية، اختار بأن يبقى أحد أعضاء جاليتهم على الرغم من ذلك. في أحد الأيام شعر فينسنت بالاضطرار إلى زيارة بيت جولز بريتون، وهو رسام فرنسي كان يحترمه كثيرا، وتطلب ذلك مشيا لسبعين كيلومترا إلى كوريير، بفرنسا، مع أنه لم يكن في جيبه سوى 10 فرنكات. لكن فينسنت كان خجولا جدا لأن يدق الباب عند وصوله، فعاد إلى كيوسميس فاقدا الثقة بشكل كبير. في ذلك الوقت اختار فينسنت فان جوخ مهنته اللاحقة بأن يكون فنانا. لكي يتدرج في حسه الدافق نحو الإحساس الحر المنطلق في فضاءات حرة. ويصعد جوخ إلى القمة تدرجا حتى اعتلى هامتها، وعند ذلك أصابه الخلل، ولم يقاوم هياج الرياح العاتية الآتية من هول القمم الطاردة لك من تمنى صقيعها! وغيره كثيرون ممن أصيبوا على الأقل بنوبة واحدة من نوبة الاكتئاب الكبرى، وتلقوا علاجا دوائيا لهذا الغرض، ومنهم على سبيل المثال: ونستون تشرشل، جورج و. بوش، هاريسون فورد، أبراهام لينكون، إسحق نيوتن، لودفيج فان بيتهوفن، نابليون بونابرت، وإرنست همنغواي، ريتشارد نيكسون، سعاد حسني، مارلين مونرو، وديفيد بيكهام، بريتني سبيرس وغيرهم.
فهل تغير القمم لمحات الإنسانية في وجوه البشر، وهل يطرد سكانها من حاول مجاورتهم في سكنى كهوفها المخيفة والحبلى بأعشاش الطيور الجارحة؟!
مسكين ذلك الإنسان الذي لا يدرك كنه ذاته، ماذا تريد؟ وما حوائجها؟، وإذا ما أدرك ذلك أصابه نوع من الشبق الباعث على الخلل العقلي إن جاز التعبير!
لم يعد يومنا هذا يحتمل تلك الدائرية المفعمة بحب الذات وانتفاخها، وإن قلبت في جوانحها ستجدها فارغة خاوية لا تحمل في ثناياها سوى الخواء الأجوف!
لم يعد يومنا هذا يحتمل تلك الشللية القائمة على المصالح، ظنا منها أنها ستصل بذلك نحو القمة، وهذا ظن أجوف يدمر في طريقه كل ورقة خضراء ترف في حضن الجبل. لم يعد يومنا هذا يحتمل الشخصنة القائمة على الهوى والأنا الأجوف!
كان منزلنا فيما مضى يربض في تلك الطلعة تحوطه المنازل في تآلف محموم بالود، ولذلك أنتجت سكانا عطّائين، أحبوا غيرهم فسموا إلى هامة التاريخ.