قليلون من تفيض الكتابة بحلاوتها في النفس، وقت تمضي في قول شيءٍ ما عنهم. كأن الكلمات تعرف روحها وهيئتها السلسة حين يتعلق الأمر بهم. مثلاً، تأخذ الكتابة في نفسي عن معجب الزهراني هذه النبرة العذبة لأسباب كثيرة، تتصل جميعها بفلك تركيبته العالية والخاصة، بدءاً من أصالته الشخصية، وجذور صفائه الجنوبي الجبلي، شجراً ومطراً، مصقولاً بالفن والعلم، كما قدرته الكتابية المستقلّة؛ نقداً وفكرةً ونصّاً، وانتهاء بالأثر الذي يتركه، فكلّما اقتربت منه، حكّ لهفةً معرفيةً فيك، وقدح شيئاً عميقاً في قلبك وذهنك.. كاختبارٍ جماليٍ متجدد.
قبل عقدٍ من الزمان ذهبت إلى جامعة الملك سعود بالرياض، قاصداً زيارة بعضٍ ممن كبر جيلي بالذات على النيل منهم، والذين نكّل بهم الصحويون، بأقذع التهم والفريات على المنابر والمحاضرات وأشرطة الكاسيت، كما فعلوا بغيرهم على طول البلاد وعرضها. استقبلني معجب الزهراني في مكتبه بمنتهى اللّطف وخفّة الروح. أخذ كتابي، وتحدثنا قليلاً، ثم استأذنته ومضيت. وتجري المقادير أن ألتقيه بعدها بشهرين فقط، في بيت صديقٍ مشترك، ومن ذلك اللقاء المملوء بالأسئلة والحوار، نشأت صداقة عميقة، والتي كان وما زال لها في نفسي أجمل الأثر. والذي وجدته وأجده دوماً، وعبر هذا القرب الممتد بهذه السنين والرحلات والمدن والطرقات والبوح والكتابة، أن يقظة الدهشة يوماً إثر يوم، التي تنطوي عليها نفسٌ كنفس أبي توفيق وذهنه، كفيلة بفلْح الكثير من هذا التخبّط والعتمة، وإنقاذها من قلّة الحياة. من قرأ مقارباته وتعرياته الناقدة لخطابات التوحّش بتنوّعها والتقائها، والتي أُعملت في سحل سويّة الإنسان بعموم، والمرأة بخصوص، وكذلك انهماكاته في جماليات الكتابة، والتعقّل والأنسنة، من قرأ غرامه بابن رشد وألبير كامو، من قرأ اشتغاله على التقاطاته الخاصة في الشعر والرواية، ومن قرأ روايته رقص سيعرف ولو قليلاً؛ أيّ قلبٍ ونفسٍ حافلةً ومشويّةٍ بالأسى والحلم، بالمكابدة والكدح، مرارة الفهم والإصرار المضني على الأمل!
سألته مرةً وأنا في بيته؛ كيف يمكنك احتمال هذه المواجهات اليومية، مع ما تسمّيه بالتوحّش، بتفاصيله الفجّة، وأنت بهذه الخزينة والذهن والحلم، أو على الأقل، وقد جُلت بهجة الفنون والحياة في حارسة المدنيّة: باريس؟ فأشار بسخريةً وهَمٍّ إلى داخل البيت، إلى ما تبقى من رقّة المطر الخالي من الفساد، لصفو العزلة التي يذهب إليها حتى بنى لها بيتاً.. قريته. قريته التي اسمها الغرباء. ويا للمفارقة واللمحة الفذّة في اسم القرية، وحياة ابنها!