الواقع يقول إن كثيرا من الناس يهرب من ذاته، أي أنه يهرب من الوقوف للتأمل في نفسه والحديث معها. الهارب من ذاته يصعب عليه الصدق والانكشاف والانفتاح مما يجعل الحوار بالنسبة له عملية مقلقة ومخيفة

الصورة التي عرضناها في المقال السابق في حالة أحمد وصالح، عن تعقيد العوامل المؤثرة في الحوار يمكن أن تقول أشياء كثيرة منها أن الحوار غالبا يبدأ كعملية مركبة وليست بسيطة، وأن تحوّل الحوار من مركّب إلى بسيط علامة على نجاحه وتحققه. الحوار البسيط يعني اقتراب الحوار من كونه تواصلا فعليا بين أطراف الحوار وليس مجرد مجاذبات بين الشخصيات المتعددة التي تحوم في المكان. الحوار هنا هو عملية تخلّص من معيقات كثيرة تقف في طريق كل المتحاورين من أجل وصول كل طرف إلى الطرف الآخر. الظروف الاجتماعية والسياسية والتجارب والخبرات السابقة التي مرّ بها الإنسان -خصوصا في المجتمعات التي تعمل على الحدّ من التواصل- كل هذه العوامل تجعل من فرص الحوار أضيق وأقل احتمالا. الحوار هنا هو عملية لمقاومة هذه الحواجز والتغلّب عليها. على سبيل المثال لنأخذ هنا حوارا بين فردين من طائفتين دينيتين مختلفتين. لنقل فرد سنّي وفرد شيعي يريدان الحوار.
لنقل أحمد هو الشيعي وصالح هو السني. من المحتمل جدا أن بداية الحوار بينهما ستشهد ابتعادا كبيرا عن أحمد وصالح. بمعنى أن الحوار قد يبدأ بين أحمد كما يراه صالح (يعني أحمد المعبّر عن الصورة النمطية للشيعي كما ارتسمت في ذهن صالح) وصالح كما يراه أحمد (أي صالح المعبّر عن الصورة النمطية للسنّي كما ارتسمت في ذهن أحمد). هذه البداية ستكون في الاتجاه المعاكس للحوار. اتجاه الحوار هو دائما لأحمد كما هو فعلا ولصالح كما هو فعلا. لا يعني هذا أنه باتجاه أحمد وصالح خارج شروطهما الاجتماعية والفكرية والسياسية.. إلخ ولكنه يعني أنه باتجاههما داخل هذه الظروف كما تعاملا هما معها فعلا، وأن لا يتم استبدالهما بصور نمطية قد لا تمت لهما بصلة. الحوار أيضا قد ينطلق في الاتجاه المعاكس ولكنه هذه المرّة بحسن نيّة... بمعنى أن يتقمّص أحمد وصالح شخصيات تقاربية بين السنة والشيعة تسعى لإخفاء الاختلافات وتعرض بشكل مبالغ فيه نقاط الالتقاء. هنا نحن أمام مشكلتين: الأولى أن هذه الصورة النمطية غير واقعية ولا تعكس حقائق الأمور أو لنقل أنها صورة ليست صادقة بما فيه الكفاية وبالتالي هي أقرب للحوار التقني الاصطناعي. المشكلة الثانية أننا هنا افتقدنا أحمد وصالح وحصلنا على (أحمد كممثل نمطي للطائفة الشيعية وصالح كممثل نمطي للطائفة السنية). هذه الصورة تبتعد بنا عن أحمد وصالح، أحمد الذي فعلا ينتمي لهذه الجماعة الدينية ولكنه يعتقد أن هذه الهويّة لا تعبّر إلا عن جزء من شخصيته ولا تستغرقها، كما أن لديه وجهات نظر نقدية داخل هذه الجماعة أيضا. صالح أيضا لا تستغرقه هذه الهوية بل لديه ما هو أوسع منها بكثير. صالح أيضا لا يعتقد أن انتماءه لهذه الجماعة يجب أن يفرض عليه هذه الصورة النمطية وأنه لا يمارس نقده واعتراضاته لها. هذه الانطلاقة للحوار قد تأخذنا أبعد في حين لو قلنا إن أحمد وصالح أصلا قد تخلّصا من الهوية الطائفية وغادراها إلى هويّات مغايرة، ولكن هذه الهوية لا تزال شبحا يطاردهما في كل مكان.
قضية جوهرية أيضا من مشهد أحمد وصالح وهي وجود احتمال لوجود قلق عميق تثيره عملية الحوار مما يجعل كثيرا من الناس يتجنّب الدخول في حوار مفتوح وصادق. في المقال السابق تحدثنا عن أن حوار صالح وأحمد تحيط به شبكة من الشخصيات المتعددة تعبّر عن حسابات معقدة لعملية التواصل البشري. هذه الشخصيات من نوع: أحمد كما يريد أن يظهر أمام صالح، وصالح كما يريد أن يظهر أمام أحمد، أحمد كما يراه فعلا صالح وصالح كما يراه فعلا أحمد.. إلخ. هنا أعود إلى هاتين الشخصيتين. أحمد كما هو فعلا وصالح كما هو فعلا. الواقع يقول إن كثيرا من الناس يهرب من ذاته. أي أنه يهرب فعلا من الوقوف للتأمل في نفسه والتعرف عليها أكثر. هذا الباب، يعتقد الكثيرون، أنه يفتح ملفات مرهقة ومؤلمة لا يريد الفرد التفكير فيها مجددا ولذا فهو يصمم حياة تسير بعيدا عن هذا الاتجاه. بمعنى أن ينخرط في حياة تشغله وترحمه من العودة إلى ذاته. كثير من الناس لا يطيق الجلوس وحيدا ولا الحديث مع نفسه. الحوار الحقيقي لا يتحقق إلا بفتح هذه النوافذ على الذات. الحوار هنا عملية صادقة لا حاجة لها بالمراوغة والصدق دائما يعود بالإنسان إلى ذاته. الصدق ينطلق من علاقة مباشرة بين الذات ومواقفها وآرائها. الهارب من ذاته يصعب عليه الصدق والانكشاف والانفتاح مما يجعل الحوار عملية مقلقة وتؤدي إلى طريق مخيف. هذه أزمة حقيقية فعلا ولذا فالحوار هو شكل حقيقي من أشكال الوجود. الحوار علاقة وجودية بمعنى أنها علاقة مباشرة تعيد الإنسان لذاته باستمرار.
هذا القلق من الحوار مرتبط ببعد جوهري في الحوار سأحاول هنا الاقتراب أكثر من أحد إشكالياته. الحوار كعلاقة جدلية، يتطلب مشاركة حقيقية من جميع أطرافه. يقلق الكثيرون من الانكشاف حين يكون من طرف واحد. بمعنى أن يقوم الطرف الآخر فقط بعملية استنطاق شبيهة بالدور السلبي للمعالج النفسي. الحوار الذي ينطلق من هذه الطريق إما أن يفشل بانغلاق أطرافه على أنفسهم أو أن يتحول لعملية علاجية من طرف واحد. جدلية الحوار تفترض ثقة متبادلة بين الأطراف يمكن التعبير عنها كالتالي: سأنكشف على ذاتي معك في مقابل أن تنكشف على ذاتك معي. هذه التعرية لا يمكن أن أحتملها حين تبقى أنت مستترا. هذا الانكشاف لن يحصل إلا بابتعاد الأشباح التي تحيط بمسرح الحوار. تلك الشخصيات المتعددة ليست في نهاية الأمر إلا أقنعة للاختفاء والهرب والتمويه ولذا فالحوار في جوهره رحلة تجاه الذات من خلال الآخر.