هل يعقل أن دول العالم من أستراليا إلى أميركا تحاول وضع أنظمة وضوابط لحجب المحتوى غير المناسب، وتحاول الاستفادة من التكنولوجيا التي أثبتت أنها يمكن أن تطبق هذه الضوابط بشكل تلقائي، بينما العالم العربي الأكثر محافظة واهتماما بالقيم بعيد تماما عن أي مبادرة من أي شكل

في منتصف التسعينات الميلادية شاهدت دراسة أميركية عن مشاعر وردود أفعال الآباء والأمهات عندما يكونون مع أولادهم أمام شاشة التلفزيون وتظهر مشاهد خادشة للحياء أو مؤثرة سلبيا على الأخلاق. حينها شعرت أن الدراسة لا تنتمي إلينا ولا علاقة لنا بها، لأنه كان هناك كم لا بأس به من الرقابة الذاتية على التلفزيونات العربية. لكن استعراض القنوات الفضائية العربية اليوم يقدم لك رؤية مختلفة تماما، فالواقع أن كم المحتوى البرامجي الدرامي والموسيقي والكوميدي الذي يخدش الحياء ويشجع المراهقين على البعد عن الأخلاق العامة ويحفزهم لامتلاك شخصية منحرفة بشكل أو بآخر أصبح واضحا للعيان بشكل يمثل ظاهرة حقيقية لا تحتاج لنقاش.
الظاهرة الحقيقية الأخرى والتي تختص بنا هي السكوت على ذلك كله وعدم السعي للبحث عن حلول. الحل الوحيد الذي يطرح حتى الآن –حسب علمي- هو اعتبار هذا المحتوى كله خارجا عن أطر الشريعة الإسلامية، واعتبار مشاهدته أمرا محرما، واعتبار الحل الوحيد هو إلغاءه كله من الخارطة.
من ناحية أخرى، يعرف جمهور الناس أن هذا الحل ليس فقط مثاليا ولا يمكن تطبيقه ولا ينتمي لواقع المشاهدين، بل إن الواقع أن الحديث عن رقابة كاملة على وسائل الإعلام وحظر ما لا يناسب الشريعة الإسلامية أصبح أمرا مستهجنا لأسباب كثيرة، منها أننا نعيش في عصر حرية الإعلام وليس الحظر على الإعلام.
إذن ما الحل؟ هل نقف مكتوفي الأيادي بينما قنوات التلفزيون – مدفوعة بالمنافسة التجارية المحمومة- تبذل جهدها ليل نهار لاستخدام الغرائز كوسيلة لجذب المشاهدين الشباب، بينما جيل كامل يتربى على قبول ذلك، بحيث صار جزءا لا يتجزأ من ثقافته العامة؟
الغربيون والأميركيون فرضوا حلا له احترامه الواسع في كل بلادهم بلا استثناء، وهو وضع نظام دقيق للدراما والكوميديا، يتم على أساسه تصنيف المحتوى إلى مستويات عمرية معينة، وبالتالي يمكن عند مشاهدة التلفزيون أو الذهاب لقاعات السينما أو استئجار الأقراص من محل ما أو مشاهدتها على الإنترنت، يمكن تحديد مستوى الحرية والانتهاك للقيم العامة التي تقرها الدولة في برنامج معين.
هذا خلق ثقافة تربوية لدى الآباء الذين يقيمون المحتوى قبل السماح لأبنائهم بمشاهدته، ولدى المدارس التي تحاول تحريض الشباب على الابتعاد عن محتوى الكبار، وأخيرا لدى منتجي المحتوى الذين صاروا يفهمون الأبعاد التسويقية لمحتوى يشاهده الكبار فقط أو محتوى لكل الأسرة ويحسمون خياراتهم على هذا الأساس.
في بعض الدول الأوروبية يفرض على القنوات التلفزيونية أن تضع العلامة الخاصة بالفئة العمرية على طرف الشاشة طوال فترة العرض، بينما في أميركا يتم عرضها في بداية البرنامج وبعد كل فاصل إعلاني. بالمقابل فرضت الحكومة الأميركية على كل مصنعي ومستوردي أجهزة التلفزيون أن تتضمن نظاما إلكترونيا يحجب المحتوى غير المناسب للكبار تلقائيا ما لم تكن هناك كلمة سر معينة. هذه التقنية موجودة في كثير من الأجهزة في أسواقنا بسبب القرارات الغربية، ولكنها لم تفعل لأن القنوات التلفزيونية لا تصنف برامجها.
حاليا هناك حملة ضخمة في أميركا يشارك فيها عدد كبير من الهيئات ومنظمات المجتمع المدني لفرض النظام نفسه على فيديوهات الموسيقى، فالفيديو كليب في السنوات الأخيرة في الغرب صار مبتذلا بشكل لم تعد تتحمله الأسرة الغربية، ومثل هذه الحملة تدق أجراس الخطر لدينا، لأن هناك تزايدا سريعا في مشاهدة كليبات الموسيقى الغربية بين النشء الجديد في العالم العربي.
الحملة في أميركا تضمنت دراسة واسعة النطاق أظهرت أن 73% من الآباء يحاولون منع أولادهم من مشاهدة كليبات الموسيقى بسبب مخالفاتها الأخلاقية، حتى إن أحد أكبر المواقع الأميركية المتخصصة في الأمومة (Netmums.com) عنون الدراسة بـهل تحول نجوم الموسيقى إلى نجوم للإباحية الجنسية؟.
هناك أيضا انزعاج هائل لدى الأسر الغربية من تلك الدعوة المحمومة التي تحملها هذه الفيديوهات نحو الفتيات المراهقات، والتي تطالبهن بأن يكنَّ مغريات جنسيا، وتصور الفتاة المراهقة المميزة بأنها فتاة تذعن لرغبات الرجال الجنسية. صدق أو لا تصدق، هذه الفيديوهات تعرض يوميا على قنوات التلفزيون العربية أيضا وعلى إذاعاتها في كل دولة عربية.
هل يعقل أن دول العالم من أستراليا إلى أميركا تحاول وضع أنظمة وضوابط وقيود لعلاج هذه المشكلة ومساعدة الآباء على تربية أبنائهم وبناتهم في هذا الزمن الصعب، وتحاول الاستفادة من التكنولوجيا التي أثبتت أنها يمكن أن تطبق هذه الضوابط بشكل تلقائي، بينما العالم العربي الأكثر محافظة واهتماما بالقيم بعيد تماما عن أي مبادرة من أي شكل كانت (سوى بعض الهاشتاقات والنداءات التي تميل للتطرف والصراخ أكثر من الفعل الإيجابي) في هذا الإطار؟
هناك مشكلة تخص العالم العربي دون غيره أن إعلامنا التلفزيوني فضائي عابر للحدود ولا يمكن بسهولة تطبيق الأنظمة عليه، ولكن نحن نعرف تماما أن الحكومات لم تعجز يوما عن فرض الضوابط السياسية على هذه القنوات متى ما رغبت في ذلك.
نحن نعيش حالة من فوضى الإثارة التي تبحث عن إشارات للمرور التي تنظم السير.