برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، تميز عن البرامج السابقة؛ بأنه أتاح الابتعاث لدول شتى، بعد أن كان مقتصرا على الولايات المتحدة وأوروبا فقط، بل ثمة ملحقيات ثقافية أنشئت في البلدان الآسيوية

لا يزال بعض أبنائنا المبتعثين في اليابان يراسلونني، مدافعين عن البلاد التي يدرسون فيها، ويبررون عما سلطت الضوء عليه تجاه تلك الزوايا السلبية في صورة اليابان، التي كرسها في الذهنية السعودية بعض الزملاء الإعلاميين من أصحاب البرامج وكتاب الزوايا، وقد تطرقوا للصورة الزاهية فقط، بتدليس معيب وتناول غير علمي.
الابن المبتعث ببلاد الشمس المشرقة عثمان المزيد من جامعة كيو العريقة، أحد هؤلاء الأبناء، وأرسل لي يصحح لي معلومة الأسلاك المتشابكة بشكل شائه بوسط طوكيو، أن القوم هناك تركوها بهذا الشكل بسبب الزلازل، لأن الأسهل لهم في معالجتها أن تكون بهذه الطريقة، وأجبته: أهذه اليابان المتقدمة صناعيا وحضاريا، لا تستطيع أن تجد حلا لأسلاكها، إلا أن تتركها بهذا الشكل الشائه والمعيب؟!.
التقيت الابن عثمان وزميله أنس المورعي في طوكيو، وكنت محظوظا برؤية ثلة من أبنائنا المبتعثين هناك، في حفل إفطار يوم عرفة الذي أقامه سعادة السفير الخلوق د. عبدالعزيز تركستاني، وهمست له بأن هذا التعاون الخلاق بين السفارة والملحقية الثقافية الفاعلة هناك بشكل رائع؛ يصبّ في صالح الأبناء بحق، وكم كنت سعيدا وأنا أراهم يتقاطرون ويملؤون الصالة بكثير من الحميمية والرابطة الوطنية التي تجمعهم، وألقيت كلمة ضمنتها، ما يتوسم الوطن وولاة الأمر منهم بعد عودتهم، وأنهم قادة المستقبل لوطن الرسالة والعلم، والأمل عليهم بعد الله في نهضة حضارية تنقل المجتمع لمصاف الدول المتقدمة.
في تلك الجلسة مع الابنين عثمان وأنس، باحا لي بأن نسبة الطلاب المبتعثين لليابان قلة، فأجبتهما وأنا أزمّ شفتي: هذا طبيعي، لو كنت مكان أي طالب، لاتجهت فورا لأميركا، أو أوروبا، فلماذا أضيع سنوات في تعلم اليابانية الصعبة، وحروفها المخيفة، والعالم لا يستخدم هذه اللغة، وكل الشركات والمؤسسات اليوم في وطني تطلب اللغة الإنجليزية، فهلما وأقنعاني أولا بجدوى فائدة دراسة الطالب السعودي باليابان؟.
ظننت أنني أفحمت الابنين، بيد أنهما بكل أدب كان يسوقان لي الأدلة بأن الدراسة في اليابان، ربما لا تكون فقط خيارا أمام التعليم العالي، بل مطلب وواجب ملّح، ذلك أن شراكتنا مع اليابان استراتيجية، فـ 70% من صادراتنا النفطية لآسيا واليابان، والاعتماد على الولايات المتحدة قلّ كثيرا.
والأمر الآخر أن اليابان لا تفرض عليك أجندة سياسية، وهم يستثمرون في الطالب على المدى البعيد، فأدبيات الشركات اليابانية بناء الموظف والاستثمار فيه، فالطالب السعودي لا يدرس نظريا فقط، بل سيتقن مهارات تطبيقية في الشركات والمجتمع، بل إنهم يقومون بذلك مجانا للطلاب، عكس الجامعات الغربية، لذلك فإن خريجي الجامعات اليابانية، سيكونون مؤهلين بدرجة عالية، ليس في تخصصاتهم وحسب، بل في سلوكياتهم من احترام الوقت، والدقة في العمل، والانصراف الكامل للإنجاز، لدرجة أن مسؤول التوظيف في أرامكو، صرح في إحدى المرات بأن الطالب السعودي المتخرج من اليابان مختلف، حتى في طريقة مشيته.
هناك الاستثمارات اليابانية في السعودية كشركة بترورابغ، فالخريج السعودي من الجامعات اليابانية سيجد العمل فور تخرجه. وأشار لي الابن عثمان بأن الشركات اليابانية، من خلال احتكاكه معهم واستراتيجياتهم في الاستثمار بالشخص، وجد في بداية الأمر صعوبة في التأقلم معهم، وهي بالتأكيد متعبة بعض الشيء للشخصية العربية، ولكنه من يغنم بالأخير، إضافة إلى أن التربية اليابانية تعتمد على الجماعية، فيتعلم الابن مزايا القيادة واحترام الوقت، لذلك عندما تأقلم مع طريقتهم عرضت عليه سبع شركات يابانية العمل معهم، ولمّا يزل الابن في مرحلة دراسته، مما أعطاني نموذجا وضيئا للشاب السعودي المبتعث، فرغم ما نسمعه عن بعض الحوادث الأخلاقية والسلوكية المؤسفة لبعض المبتعثين، إلا أن هناك نماذج خلاقة نفخر بها كوطن.
شكرت الابنين الخلوقين، وبالتأكيد، برغم كل ملاحظاتي عن اليابان، فهي دولة متقدمة صناعيا، ولها ثقلها الاقتصادي على مستوى العالم، وبلغت منزلة متقدمة في بناء الإنسان، وعدت من فوري لأراجع نسب المبتعثين وتوزيعهم، فوجدت أن آخر إحصائية نشرتها وزارة التعليم العالي (صحيفة الحياة 3مارس 2013م) فيها أن عدد طلابنا يصل لـ(149) ألف مبتعث، في أميركا فقط (69235) مبتعثا، أما في بريطانيا فقد بلغوا (14459) مبتعثاً، وكندا(13801) مبتعث، ثم أستراليا (8789) مبتعثا.
يقابل هؤلاء في دول شرق آسيا التي لدينا استثمارات كبرى معهم، الصين (1143) مبتعثاً، وفي كوريا الجنوبية (200) مبتعث، فيما اليابان (499) مبتعثا.
برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، تميز عن برامج الابتعاث في السبعينات والثمانينات الميلادية؛ أنه أتاح الابتعاث لدول شتى، بعد أن كان مقتصرا على الولايات المتحدة وأوروبا فقط، بل ثمة ملحقيات ثقافية أنشئت في البلدان الآسيوية، وهذه نقطة إيجابية برأيي.
لست متخصصا، ولكنني إعلامي متواضع يتابع التطورات في الساحة السياسية والاقتصادية، وأشعر أنّ على معالي وزير تعليمنا العالي د. خالد العنقري، وفريقه المتخصص في شؤون الابتعاث؛ دراسة توزيع هذه المحاصصة، ومن الضروري التوجه لدول شرق آسيا، فأولئك القوم هم من يستثمر عندنا، وهم من يشتري بترولنا، وهم من ستزيد شراكاتنا الاقتصادية في المستقبل معهم، ونسب الطلاب قليلة جدا مقارنة مع أميركا.
ولا نغفل أمرا آخر، فعودة الطلاب من ثقافات شتى تعود بالفائدة علينا كمجتمع أكثر بكثير من عودتهم بالثقافة الأميركية أو الغربية فقط، ففي كل هذه الدول نماذج ملائمة لنا، نستطيع الإفادة منها، ومن الخير في المستقبل البعيد تنوع ثقافات هؤلاء الطلاب الذين سينقلون إيجابيات تلكم الثقافات التي عاشوها واقعا لمجتمعنا بما نتوسم منهم.
والتطورات السياسية الأخيرة، أعطتنا درسا بألا نضع البيض كله في سلة واحدة، ومن مصلحتنا الانفتاح على الجميع، فلا صديق دائم في دنيا السياسة.
التنوع والاستثمار في دول شرق آسيا، ضرورة واستراتيجية مهمة لنا يا وزارة التعليم العالي.