المصلحة الوطنية قابلة للتبدل مع الوقت كونها تتعامل مع واقع متغير بطبيعته نتيجة ديناميكية الأحداث وعامل الزمن، فما قد يكون مصلحة وطنية في فترة ما قد يتحول لأمر ضد المصلحة الوطنية في وقت لاحق
يبرز السؤال أعلاه بقوة في ظل الظروف الإقليمية الراهنة والتحديات التي تواجهها المنطقة في محيط عالمي متغير هو الآخر، وتأتي أهمية الإجابة عن هذا السؤال لكون مصطلح المصلحة الوطنية (national interest) يحمل في ذاته قيمة نهائية محددِة لما هو صحيح أو خاطئ في السياسة. إن النقاش حول سياسة المملكة وعلى الأخص فيما يتعلق بالسياسة الخارجية سيقود في النهاية للخروج بتساؤل حقيقي: هل سياسة ما أو فعل معين يخدم المصلحة الوطنية أم لا؟ ولأن مصطلح المصلحة الوطنية يظل مصطلحا مطاطا يمكن تأويله في أي اتجاه، تبرز بالتالي أهمية السؤال: ما هي المصلحة الوطنية على وجه الدقة؟ وبشكل خاص فيما يتعلق بسياستنا الخارجية.
إن مفهوم المصلحة الوطنية لا يزال أحد أكثر المفاهيم الخلافية بين علماء السياسة وممارسيها في كل الدول. من السهل تحديد مصلحة أي شركة بالقول إنها في نهاية الأمر: زيادة الأرباح، إلا أن المسألة تأخذ بعدا أكثر تعقيدا عندما تتعلق بالدول، فعلى سبيل المثال: هل تصب علاقة الولايات المتحدة المميزة مع إسرائيل في مصلحتها أم لا؟ البعض قد يجادل بأن مصلحة أميركا الحقيقية هي في علاقة جيدة مع كل الدول العربية سياسيا واقتصاديا بدلا من دولة واحدة صغيرة، في المقابل هناك من قد يجادل بأن مصلحتها في إبقاء إسرائيل قوية لأغراض أخرى، وهكذا فإن السياق ذاته يعيد نفسه في نقاش، ما هي المصلحة الوطنية لدولة ما؟
المملكة تعتمد بشكل شبه كلي على تصدير النفط، وهو يمثل شريان بقائها الذي يسمح لها بالحصول على الدخل اللازم لدفع متطلباتها بدءا من تحلية المياه ورواتب الموظفين وانتهاء بخطط التنمية ودفع متطلبات سياستها الخارجية، وضمن هذا الإطار فإن مصلحة المملكة فيما يتعلق بمسألة تغير المناخ (climate change) – على سبيل المثال – تفرض عليها معارضة توجهات الدول الكبرى فيما يتعلق بانبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يتوافق مع موقف دول مثل الصين والهند والبرازيل، إلا أن العلاقة الأمنية للمملكة بالولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسة من جهة أخرى تفرض عليها قيودا، فكيف يمكن تحديد المصلحة الوطنية هنا؟
جدير بالذكر أن مسألة تحديد المصلحة الوطنية للدولة هي تحد تواجهه جميع الدول في العالم سواء الدول الكبرى أو الصغرى، وغالبا ما يخضع المصطلح لتضارب الرؤى سواء على مستوى الرؤية العامة للتيارات الفكرية في الدولة أو على مستوى الرؤية السياسية بين النخب والجماعات المؤثرة والأحزاب، كما أن المصلحة الوطنية قابلة للتبدل مع الوقت كونها تتعامل مع واقع متغير بطبيعته نتيجة ديناميكية الأحداث وعامل الزمن، فما قد يكون مصلحة وطنية في فترة ما قد يتحول لأمر ضد المصلحة الوطنية في وقت لاحق.
إلا أنه يمكن تلمس بعض النقاط الأساسية في تحديد ما هي المصلحة الوطنية لأي دولة:
أولا: يعد عامل الجغرافيا السياسية أحد العوامل الرئيسة التي تحدد مصلحة أي دولة على المدى الطويل، على سبيل المثال: فإن الإبقاء على مضيق هرمز مفتوحا وآمنا لتصدير النفط هو مصلحة وطنية حيوية بالنسبة لدول الخليج، أو الإبقاء على مستويات مياه النيل التي تصل لمصر بالنسبة لها. مثل هذه الأمور تصب في خانة بقاء الدولة من عدمه (survival)، وتؤثر بشكل مباشر على توجهات أي دولة فيما يتعلق بسياستها الخارجية.
ثانيا: يعد عامل تعريف الدولة لنفسها أحد العوامل الرئيسة في تحديد مصلحتها الوطنية، فالدول العربية على سبيل المثال ترى أن حل القضية الفلسطينية جزء من مصلحتها الوطنية، فتعريف الدولة لنفسها يضعها أمام عدة مسارات إجبارية تتداخل مع وضعها الداخلي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بطريقة تفرض عليها تحديد مصلحتها الوطنية في اتجاه ما. ويعد المرادف اللغوي الفرنسي لمصطلح المصلحة الوطنية (raison d’etat) والذي يعني حرفيا: سبب الدولة الأكثر تعبيرا عن جوهر ما قد تعنيه المصلحة الوطنية لدولة ما، فلا يمكن تخيل المصلحة الوطنية للمملكة دون الأخذ في الاعتبار دورها كقبلة العالم الإسلامي، أو الأخذ في الاعتبار أنها دولة قامت على أساس توحيد منطقة قلب الجزيرة العربية بما يتضمنه هذا الأمر من اعتبارات الأمن والاستقرار والسعي نحو الرفاهية.
ثالثا: يعد العامل الأهم في تحديد المصلحة الوطنية لأي دولة في سياستها الخارجية هو رؤية الدولة لمسرح العلاقات الدولية، حيث إن قراءة كل دولة لحال الواقع الإقليمي والعالمي تقودها بالتبعية لتوليد سياسات تسعى فيها لتحقيق ما ترى أنه مصلحتها، وهنا يظهر الجدل الحقيقي حول ما تمثله تلك المصلحة على وجه الدقة. تفترض المدرسة الواقعية (realism) في العلاقات الدولية أن فطرة العالم (state of nature) محكومة بالتنافس بين الدول، وأن الإنسان بطبيعته ميال للشر ما لم تحجّمه قوة خارجية، وبالتالي فإن المصلحة الوطنية الأساسية لأي دولة هي البقاء والاستمرارية والحفاظ على أمنها والسعي لمزيد من القوة (power) مقابل الدول الأخرى. في المقابل ترى المدرسة الليبرالية (liberalism) أو المثالية (idealism) في العلاقات الدولية عكس ذلك تماما، ولعل مثال حكومات جماعة الإخوان المسلمين التي تشكلت عقب الربيع العربي في بعض الدول بما تحمله أبلغ دليل على انعكاسات اختلاف الرؤية فيما يتعلق بالمصلحة الوطنية، وما يتبع ذلك من تبديل للتحالفات وسعي لتحقيق سياسات هي في جوهرها نابعة من رؤية مختلفة لحال مسرح العلاقات الدولية وكيفية تحقيق المصلحة الوطنية المثلى للدولة ضمن هذا المسرح.
إن مطاطية مفهوم المصلحة الوطنية يفرض علينا الغوص أكثر فيما يعنيه هذا المصطلح على وجه الدقة؟ وكيفية انعكاسه على سياستنا الخارجية؟ ولعل علاقة المملكة بدولة مثل إيران أبلغ مثال على مدى تعقيد تحديد المصلحة الوطنية هنا. فهل التقارب مع إيران في ظل الواقع الراهن يصب في مصلحة المملكة الوطنية أم لا؟ وهل تقارب الغرب مع إيران حاليا يصب في مصلحتنا الوطنية أم لا؟ وبالتالي: ما هي مصلحتنا الوطنية على وجه الدقة والتحديد؟ هل هي مجرد البقاء والاستمرارية في محيط يبدو معاديا لنا؟ أم أن الأمر يتجاوز لذلك باتجاه رؤية نملكها لأنفسنا ومحيطنا على المدى الأبعد نسعى لها وتختلف عن رؤية غيرنا؟
إن تحديد المملكة لمنظومة مصالحها الوطنية بشكل واضح بات ضرورة ملحة في الوقت الراهن، خاصة في ظل ما تموج به المنطقة من تغيرات وفي ظل مسرح العلاقات الدولية الذي أصبح أكثر تعقيدا مما كان عليه. إلا أن تحديد منظومة المصالح هذه رهن بتحديد العوامل الأساسية المؤثرة في مصلحتنا وبتعريف دولتنا ورؤيتها لنفسها، وكذلك رؤية الدولة لواقع العلاقات الدولية اليوم، وأين تكمن مصلحتها ضمن ذلك؟ (للحديث بقية)