الموقف السعودي من عضوية مجلس الأمن أعطى درساً واضحاً عن إمكانية التأثير على القرار الدولي كله، وأن العصر الجديد يسود فيه من هو قادر على فهم اللعبة السياسية وإتقانها

لا أخفي القارئ الكريم أنني دهشت حين أعلنت المملكة العربية السعودية موقفها الرافض لأن تكون عضواً في مجلس الأمن الدولي، ذلك المنصب الذي يحتاج إلى جهود دبلوماسية حثيثة حتى تستطيع تحقيقه، وجاء الرفض بعد إعلان فوز المملكة بالمقعد بالانتخاب، وكنت أفكر ملياً: ما الذي يدفع المملكة لاتخاذ خطوة على هذا المستوى جعلت الخبراء السياسيين والمهتمين تاريخياً بالمواقف التي حصلت في مجلس الأمن يفتشون أرشيف المجلس ويتساءلون: هل حصل أن كان لهذا الموقف التاريخي سابقة يقاس عليها، أو مر على المجلس موقف كهذا؟
منذ قيام هيئة الأمم المتحدة في تاريخ 1945، والدول الكبرى الأعضاء الدائمون في المجلس يتعاملون مع الدول المنتسبة إليه بمثل ما يتعامل الوصي على إرث الأبناء بالتصرف التعسفي ومنع الحقوق إخضاعاً للناس للأمر الواقع، مع وضوح الحقوق والواجبات، ويسيرون على قاعدة حكم القوي على الضعيف، وهناك تململ من دول كثيرة لازدواجية المعايير التي تتعامل معها القوى الكبرى في كثير من القضايا السياسية العالمية، خلافاً على القوانين المكتوبة التي تعطي الدول الحق المتساوي في القرار والتصويت، وكانت تلك الدول تنتظر ثورة داخل المنظمات الأممية التي تصرخ في الآخرين إلى ضرورة العدل في الميزان والقسط في المواقف حتى قامت المملكة بهذا الدور التاريخي في حدث جعلت الأنظار تلتفت قسراً إلى هذا التذمر وهذا التململ وهذا الإعلان الظاهر الذي لا يقبل التغيير في الإشارة إلى اعوجاج المنهج داخل هذه المنظمات الأممية التي قامت في الأصل كحلف عالمي لإقامة العدل ونصرة الضعيف وتحقيق الأمن والسلم الدولي.
إننا أمام تاريخ جديد قد يغير موازين القوى ويخلق نظاماً جديداً تظهر فيه القوى الجديدة والمؤثرة التي تشترط تطبيق ما اتفقت عليه الأمم منذ نشأتها دون أن يكون التعاطي داخل المجلس من منطلق فرض الإرادة للقوي وتسييس القرارات لمصالح المتغلب الأممي، وهذا الإصلاح الذي تحتاجه كل الدول ليس إصلاحاً جزئياً أو إجرائياً، بل هو إصلاح جذري سيقلب الموازين ويفتح الاحتمالات الكثيرة للمستقبل والذي قد ينتج نظاماً جديداً في تاريخ العلاقات والسياسة الدولية.
لقد تحدث النبي، صلى الله عليه وسلم، عن حلف في الجاهلية حين اجتمعوا في بيت عبدالله بن جدعان لنصرة الضعيف والمسكين ورد الحقوق وتحقيق السلام، وقال عليه الصلاة والسلام: (ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت)، لأن هناك قيماً عامة ومشتركة عند الناس جميعاً، دل عليها العقل الصحيح وفطرة النفس الإنسانية وآثار الأنبياء وما دلت عليه الشرائع، والهدف منه تحقيق هذه القيم العليا التي تنبذ الظلم، وتدعو للعدل، وتقيم موازين القسط بين العالمين، وهي أحد مقاصد التشريع في الإسلام، فإن تحول هذا الاجتماع ليكون نصرة للأقوياء على حساب الضعفاء، أو عدم تحقيق العدالة مع الجميع فستكون آثاره مدمرة، ومفاهيمه وقيمه مسيسة للمصالح الكبرى، فينقلب ليمرر من خلاله الظلم والبغي، وهذا يقتضي ضرورة الفاعلية الكبيرة لمنتسبيه لإصلاحه حين يحيد عن الهدف من إنشائه، ولا تكون قراراته حصان طروادة لتمرير مصالح قوم دون قوم، وفئة دون فئة، الأمر الذي أشار إليه التصريح الرسمي السعودي حول مبررات رفض ترشيح المملكة لهذا المقعد الذي حصلت عليه.
سيخوض المحللون، ويكتب السياسيون حول الموقف السعودي وضخامته، ومهما كانت التحليلات سوف يظل موقفاً مشهوداَ ومفصلياً، وخاصة في ظل التقاعس الأممي حول القضية الفلسطينية التي طال أمد حلها، والمعضلة السورية التي تتعقد يوماً بعد يوم، وما سيتلو ذلك من خلق حالة كبيرة للفوضى في المنطقة، ويضاف إلى ذلك بداية انحسار للموقف الأمريكي الذي ألهته همومه الداخلية عن مهامه الخارجية، والتي قد تقلب موازين القوى العالمية وخلق تحالفات جديدة ستؤثر على السلم العالمي كله، وخاصة ما يتعلق بالدين الأميركي والعلاجات المؤقتة التي لن تجدي، ولربما تضطر معه أميركا إلى تصرفات ستكون كارثية على السياسة العالمية، الأمر الذي أرادت السعودية لفت الأنظار إليه.
والموقف السعودي أعطى درساً واضحاً جداً في إمكانية التأثير على القرار الدولي كله، وأن العصر الجديد يسود فيه من هو قادر على فهم اللعبة السياسية وإتقانها، ومن يدخل فيها من خلال قواعدها الظاهرة يستطيع الفوز والتأثير، بغض النظر عن موقفه السياسي والاقتصادي والحضاري، تماماً كإمكانية فوز دولة أفريقية بكأس العالم في كرة القدم وتأخر الدول الكبرى في قائمة المشاركين فيه، وهذا بلا شك يحتاج إلى جرأة وإقدام وإتقان للعبة واحترافية في إدارة الصراع والتحالف والضرب على موازين القوى وظروف المراحل واستغلال الفجوات والتغيرات.