لم يكن الدين في يوم معضلة المجتمعات الإسلامية، بل إن المعضلة تكمن في 'توظيف' الدين للسيطرة على المجتمعات، مما أبعد الإنسان عن استشعار علاقته الحقيقية بربه

تعرَّض-قبل أيام- الروائي والكاتب المصري المعروف علاء الأسواني لمحاولة اعتداء، أثناء إلقائه محاضرة في معهد العالم العربي بباريس، من قبل أشخاص يرفعون شعار رابعة العدوية الذي أصبح اليوم شعاراً لجماعة الإخوان وأنصارهم.
وبغض النظر عن انتماء هؤلاء فعلياً لجماعة الإخوان، فأثناء مشاهدتي للحدث، طرأت في ذهني علامات استفهام كثيرة: ماذ يفعل هؤلاء البلطجية في باريس؟ هل حضروا ليختلفوا ويعبروا عن آرائهم الثقافية، أم أنهم حضروا لأعمال البلطجة؟
والذي لستُ أعرفه بالضبط، هل من قاموا بهذا الفعل يعرفون ماذا تعني محاولة الاعتداء على مثقف يحاضر في باريس؟ بمعنى هل يعي هؤلاء تاريخ فرنسا وعلى ماذا قامت ثقافتها؟ وبغض النظر عن احتمال محدودية معرفتهم، يجب التأكيد أن باريس -عاصمة النور- قد رفضت عبر قرون ماضية توظيف الدين للسيطرة على المجتمع، وأن مثقفي فرنسا قد عانوا الإرهاب الثقافي المستمد من الفكر الديني الذي طغى على كل أجزاء الثقافة بما يشبه تضخم الخلية السرطانية، ليصبح الفكر الديني الإقصائي هو المهيمن والمسيطر على المجتمع، من خلال توظيفه للدين بطريقة بعيدة عن الدين وإن اتخذت منه رداءً مزيفاً.
وهذا يعني أن المجتمعات العربية والإسلامية تمر بالحالة ذاتها، إذ لم يكن الدين في يوم معضلة المجتمعات الإسلامية، بل إن المعضلة تكمن في توظيف الدين للسيطرة على المجتمعات، مما أبعد الناس عن استشعار علاقتهم الحقيقية بربهم، وتحديد نوع معين من العلاقات بين الأفراد من خلال التفتيش في عقائدهم وضمائرهم ومحاكمة آرائهم.
اليوم ازداد الحال سوءاً، فبعد أن كانت الخلافات الفكرية مطلع القرن الماضي تجد طريقها في انسكاب الحبر على أوراق الصحف والمجلات والكتب، أصبحت الخلافات الأيديولوجية اليوم تتجسد على شكل إرهاب وإرهابيين ضد الثقافة والمثقفين، وهذا يفسح المجال للمتشددين من ممارسي الإرهاب الثقافي أن يلجوا من الباب الخلفي متسلحين بالحماس للفكر الذي يحملونه، وقد يكونون متعصبين له في أحيان كثيرة، أكثر من حماسهم وتعصبهم للدين الذي يدينون به، وهذه معضلة الأيديولوجيات التي تدفع الشباب إلى الهاوية في كل مرة.
لم أكن مستغرباً مما حصل للكاتب المصري علاء الأسواني، فقد مررنا بحالات مشابهة منذ سنوات طويلة مع اختلاف (الاختلاف) نفسه، حيث كانت القضية تقدم في كل مرة على أساس أنها الدين ضد الثقافة، أو الثقافة ضد الدين، رغم أن الصواب والصحيح هو أنه لم يكن أي منهما ضد الآخر، إنما أصل القضية أن فكراً ما يريد إقصاء الفكر الآخر لتخلو له الساحة، فيسيطر على المجتمع برمته!
ولذلك لم أستغرب تسابق شباب مصريين أو غير مصريين في باريس لمحاولة إثارة الفوضى في مناسبة ثقافية ربما تخلو من السياسة، فالأزمة التي حصلت بمصر هذا العام جعلت الفكر الإخواني أنموذجاً للفكر الديني الذي يتضخم بشكل عدائي ضد أي فكر يخالفه، دون أدنى اعتبار للطاولة المستديرة التي يفترض أن تحوي الاختلافات الفكرية والثقافية.
إلا أن هذا الفعل ينطلق من الوصاية كسلطة للسيطرة على كل مختلف عنها، ومن يقرأ عصر التنوير في التاريخ الأوروبي يجد أن الإقصاء أسهم في دعم أفكار التنوير ونبذ الوصاية، من خلال رفض تقديس الأفكار والرجال، ولذلك شاعت محاكم التفتيش لتنصب المشانق لأي فكر مختلف عن السائد؛ ومن هنا فإن الإرهاب الثقافي يأتي في إطار توظيف الأيديولوجيا ضد الفكر الحر، ومن وسائله التعبئة والتجييش لمهاجمة المثقفين من خلال كتائب الفوضى في الملتقيات الثقافية عادة، وتتكون عادة من أفراد جهلة يأتون بأحكام مسبقة، ليس لهم من الأمر شيء سوى أنهم أُمروا أن يفعلوا هذه الأفعال، ولنتذكر أن من قاموا باغتيال نجيب محفوظ ومن اغتالوا فرج فودة ينتمون إلى مثل هذا الفكر الديني المتطرف.
فأقصى درجات الاختلاف يمكن أن يصل لها الإنسان بسهولة، بل يمكن لأي إنسان أن يُستفز، ولكن أن يصل الأمر إلى أعمال البلطجة في أنشطة الثقافة فهذا تعد على كل القيم الثقافية، كما هو تعد على القوانين، ولهذا قد صُدم الفرنسيون من الفعل الذي أحدثه بلطجية الثقافة، ولم يستوعبوا أنه في العالم يمكن للجماعات الدينية تكوين كتائب تهاجم المثقفين بشكل شرس وتحاول أن تلحق بهم الأذى، لا لسبب سوى أنهم لا ينطلقون بالمبادئ نفسها، وبالتالي يعتبرونهم خارجين عن وصايتهم الفكرية، وقد عانينا نحن أيضاً من مثل هذه الأفعال لسنوات طويلة، ولكن لم يثن الأمر مثقفينا عن القيام بدورهم.