بعد انتخاب الدكتور حسن روحاني رئيساً للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ثم المكالمة الهاتفية الشهيرة بينه وبين الرئيس الأميركي باراك أوباما -التي تعتبر الأولى منذ 1979- تناولت وسائل الإعلام الغربية قضية التقارب الأميركي الإيراني بطريقة (الفزّاعة)، وتبعتها بعض وسائل الإعلام العربية في (استنساخ) هذه الفكرة والنفخ بها لتصبح مثل بعبع سياسي، بعد النظر إلى الجزء الفارغ من الكأس، فظهر للبعض أن هذا التقارب مخيف عربياً، في قراءة أخذت جانباً وأغفلت جوانب أخرى فابتعدت عن الموضوعية كلياً.
وتجدر الإشارة إلى أن أي تقارب لن يستند على أرض صلبة إذا اقتصر على مبدأ (براغماتي) بحت ومصالح مادية، دون تفعيل للمصالح الإنسانية المشتركة الأخرى، باعتبار أن البشر مهما كانت مصالحهم وغاياتهم، فإن الأفراد أهم من يستطيع القيام بالدور التطبيعي بين الشعوب والثقافات؛ مما يعني وجود علاقات طبيعية وسوية، حتى وإن كانت مبنية على المصالح المشتركة أساساً، وأعتقد أن الدول التي تبحث عن مصالحها وغاياتها وسبل قوتها وبقائها، سوف تبتعد عن الانفراد والانعزال في ظل وجود نظام عالمي مشترك كبير، وهذا ما يؤكد أن التقارب الحقيقي هو التقارب الشامل المتدرج.
وعلى ضوء ذلك، ربما تبحث الولايات المتحدة عن مصالحها، لكن تقاربها مع إيران سيكون مبستراً وهشاً، إذا لم يشترك فيه الشعبان الأميركي والإيراني، وأظن أن هذا أمر صعب لأن مشاركة الشعوب هي التي تحدد فاعلية التطبيع، ولا يخفى على أي متابع للشأن الإيراني وجود قوى اجتماعية وسياسية راديكالية رافضة للتطبيع مع الأميركيين، وبالتالي فإنه قد يحصل التقارب سياسياً، إلا أن التقارب الثقافي والاجتماعي سيكون أمراً صعباً، بل إني أظنه مجهولاً، ما لم توجد قوى ثقافية تدعمه وتدفعه باتجاه (الأنسنة) بعيداً عن السياسة، وبالتالي لن يكون التقارب ناجعاً ومستمراً من دون المرور بالوسيط الثقافي/ الاجتماعي.
والسؤال المطروح هنا هو: لماذا يعتبر التقارب الأميركي الإيراني غير مخيف لنا.. بل وربما يسعدنا؟
وللإجابة عن هذا السؤال يجب أن نعود قليلاً إلى الفترة القريبة الماضية حيث سنجد أن السعودية في مقدمة الدول التي هنأت الرئيس حسن روحاني بفوزه في الانتخابات الرئاسية الإيرانية، إذ حملت برقية التهنئة التي بعث بها الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى الرئيس روحاني، إشادة بتصريحاته المتضمنة حرصاً على التعاون وتحسين العلاقات بين البلدين. وبدوره، وجّه الرئيس الإيراني حسن روحاني برقية تهنئة إلى الملك عبدالله بن عبدالعزيز، بمناسبة اليوم الوطني للمملكة، أعرب فيها عن أمله في تنامي التعاون الأخوي بين إيران والسعودية، والإفادة من المشتركات الثقافية والتاريخية العميقة للشعبين.
وعلى ضوء هاتين الرسالتين يمكننا قراءة الفرص والإمكانات المستمرة بين البلدين التي تفتح الأبواب وتتيح الفرص للتقارب بينهما، وربما تقلّص الخلافات السياسية؛ فالأرض خصبة دوماً لنشوء تقارب سعودي إيراني؛ لأن بذور هذا التقارب موجودة مسبقاً وباستمرار، نظراً للأبعاد التاريخية والثقافية والجغرافية المشتركة، فهي أبعاد لا يمكن تجاهلها في أي مرحلة تاريخية لأنها السبيل الحقيقي للتقارب بين الشعبين السعودي والإيراني من جهة، وبين الثقافتين العربية والفارسية من جهة أخرى.
ونتيجة لهذه الأبعاد العميقة الضاربة في أعماق الثقافة والتاريخ والجغرافيا، فإن فرصة التقارب غالباً ما تنبعث من جديد في ظل حكم تيار الإصلاحيين في إيران، والذي بددته حكومة الراديكاليين في عهد أحمدي نجاد الذي انعكس سلباً حتى على الداخل الإيراني، غير أننا نتذكر جيداً مرحلة التقارب اللافتة في عهد الرئيس الإيراني الأسبق الدكتور محمد خاتمي، إذ كانت تلك المرحلة علامة إيجابية فارقة في علاقة إيران بالعالم، ولا سيما بالعالم العربي وبالمملكة خصوصاً، بعد أن أظهر الإصلاحيون حسن النوايا وأهمية الإفادة من ثقافتنا الإسلامية المشتركة التي ترتكز على أبعاد إيجابية مهمة تثمر التقارب إذا ما تم الاحتكام إليها.
وهنا أقول إن التقارب الأميركي الإيراني ليس بعبعاً للدول العربية كما يحاول البعض تصويره، بل إنه فرصة لإيران وجاراتها للتقارب المبني على احترام السيادة، والاشتراك في تنمية الأبعاد الثقافية والتاريخية التي تتوفر لدينا ولا تتوفر لدى الغرب.
وهنا أشير إلى أهمية دور الثقافة في صناعة فرصة سانحة للتقارب الأكثر تأثيراً، من خلال المهرجانات الثقافية والأدبية والفنية بين الثقافتين العربية والإيرانية، وبالأهمية ذاتها يكون دور المثقفين التنويريين من الجانبين في هذه المرحلة بالذات، أو بعبارة أخرى أولئك المثقفون الذين لا يحملون أحكاماً طائفية أو تاريخية مسبقة تنعكس سلباً على الثقافة، في ظل إدراكهم للثقافة بمفهومها الشامل والمجرد من كل عُقد الماضي، التي ما زالت تجعل كل شعوب المنطقة تدفع الثمن بالقطيعة، وبالتالي خسارة فرص مهمة للتثاقف والتواصل.