آن أوان أن تقوم 'الهيئة' بإعادة صياغة أهدافها عبر علمائنا الشرعيين والمتخصصين الأمنيين وعلماء الاجتماع والنفس، لبلورة رؤية جديدة تتحدد فيها الأهداف الاستراتيجية والمرحلية، وطرق التعاطي مع أفراد المجتمع
طوال فترة عملي في الساحة الإعلامية، التي امتدت لأكثر من عقدين من السنوات؛ لم أر هجوما ضاريا على جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما شهدناه ونشهده خلال هذه الأيام.
الهجمة الشرسة امتدت لاجتثاث الهيئة بكاملها، وبأنه آن أوان حلها، والبعض طالب بدمجها بالشرط، ونصفها الآخر الوعظي بوزارة الشؤون الإسلامية، فيما البعض الثالث طالب بأن تتمدن، وتخرج عن هذا الإطار الضيق الذي انحشرت فيه، وتؤخذ من أيدي الشرعيين، وتتاح لكل أبناء الوطن، في الوقت الذي التزم فيه رئيس الهيئات معالي الشيخ عبداللطيف آل الشيخ الصمت حيال كل المطالبات القاسية بحق الجهاز الذي يشرف عليه، بل تماهى مع تلك الحملة الإعلامية الظالمة، وقام بتصريحات ضد بعض أفراد الجهاز الذي يشرف عليه.
لو عدنا لحادثة السوناتا في اليوم الوطني، والتي فجرت الهجمة الإعلامية، لرأينا عدم الإنصاف من قبل الزملاء الذين كتبوا، والمفترض أن ينتظروا حكم العدالة في القضية، كي يكون لكلماتهم بعض من الموضوعية، أما الاستعجال ورمي التهم بهذا الشكل، فهو برأيي متجاوز وغير علمي، بل يدخل في سير المحاكمة والتحقيقات، ومن يرجع لأرشيف الصحافة، يجد أن كثيرا من القضايا التي اتهم فيها رجال الحسبة، برأتهم المحاكم، ودونكم حادثة الخليل التي وقعت بالمدينة المنورة عام 1429، وظهرت التحقيقات ببراءة عضوي الهيئة، وغرمت إحدى الصحف بعد عامين، من لجنة المخالفات الصحافية بوزارة الثقافة والإعلام بـ270 ألف ريال، وكتابة اعتذار للهيئة في الصحيفة.
هناك من قال صراحة: إن الظروف التي أنشئت فيها الهيئة -إبان التأسيس- تغيرت، وإننا في عصر الحريات والحقوق الفردية، ولا يليق أن تبقى الهيئة تلاحق المواطنين بهذه الطريقة المتخلفة، وتفتش في هوياتهم، وتشكك في نياتهم، فيجب علينا حلها واستبدالها بهيئة مدنية. والإجابة على هذه المقولة من شقين؛ الأول منهما يتعلق بالجانب الشرعي، كوننا أمة مأمورين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك كرر ذلك ولاة الأمر مرارا، ونبهوا لهذه النقطة، ودونكم ما قاله سمو الأمير نايف -يرحمه الله- في أحد لقاءاته مع العلماء: إنه لا شرف لهذه البلاد -أمة وقيادة– ما لم تَنْهَ عن المنكر، وتأمر بالمعروف، وإن الدولة هي التي تقوم على هذا العمل، والذي يحقق هذا الأمر، وتعمل من أجله، وهذا ليس بجديد، بل إنه منذ أن قامت الدولة على يد المصلح محمد بن سعود، وحتى اليوم.. يجب أن يعرف الجميع داخل المملكة أو خارجها أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن أساسي لدولة الإسلام، ويكفي أن نأخذ من هذا الاسم معناه.
الشق الثاني في القضية، ما يتعلق بالأمن المجتمعي والأخلاقي، وهذه لعمر الله موجودة في معظم بلاد العالم، وإن تعددت أسماؤها، كشرطة الآداب مثلا، ومن ينادي بتحويل الهيئة لشرطة الآداب المدنية، بمعنى أن نفتكها من أيدي الشرعيين؛ مخطئ، لأن ثمة جانبا شرعيا حاضر، والصحيح أن الهيئة تحقن بأكاديميين من مختلف التخصصات الأخرى، إن كان في علم الاجتماع أو علم النفس أو الإعلام، وكل تخصص يتماس من قريب أو بعيد مع عمل الجهاز، وحقن الهيئة بالتكنوقراط من كلا الجنسين مهم جدا في مرحلتنا الحالية، لينقلوه إلى أمداء بعيدة، ويطوروا عمله بما يتساوق والمرحلة التي نعيش.
عندما نقوم بالدفاع عن جهاز الحسبة، ورجالها المحتسبين، لا يعني أننا ننزههم عن الأخطاء، فالأخطاء واقعة طالما كان العمل، ولكن أن نقوم بهذه الحملة الضارية من أجل معركة مؤدلجة فكريا، ويكون الثمن جهازا حساسا يحتاجه المجتمع بأشد ما تكون الحاجة أمام هذا الانفتاح الهائل، وتلجأ له الفتيات المراهقات، لحمايتهن بعد الله من الابتزاز، وما وقعن فيه من زلل، فضلا على أن الانسان يأمن أهله في الأسواق والمراكز التجارية من تعديات الشباب المراهقين والأشقياء، إضافة للتصدي للسحرة ومصنعي الخمور، وملاحقة أوكار الدعارة وجيوب المخدرات المنتشرة في الأزقة الشعبية، وليت هؤلاء قرأوا النشرة السنوية لأعمال هذا الجهاز، وتحلوا بالإنصاف والعلمية، ليرجعوا عن تلك الحملة الظالمة.
ثمة أجهزة يقع فيها الموت جرّاء أخطاء، ولم يطالب أحد بإلغائها، بل كان النقد منصبا في تطويرها وإصلاحها، فأخطاء الصحة وكوارثها تملأ صحفنا بالطول والعرض، وهناك الأمن وما يخطئ به بعض أفراده، بل حتى العاملات المنزليات عندما قام بعضهن بقتل أطفالنا، لم ترتفع العقائر بإلغاء الاستقدام، بل بالتشديد على شروط ومؤهلات العاملة المنزلية.
أحد زملائي، كان متأثرا جدا بهذه الحملة، وقام يرغي ويزبد على الهيئة وأفرادها، مطالبا بحل الجهاز والانفكاك من المطاوعة، أجبته مبتسما: ابنتك الآن في العاشرة، بعد ثلاث أو أربع سنوات ستكبر، وستعرف حينها أهمية هؤلاء. امتقع لونه، وتغيرت قسمات وجهه، وقال لي: والله صدقت، لأَنهم بأخطائهم المحدودة، خير ألف مرة من عدم وجودهم.
السعي لتعريف المواطن بأهمية رجل الهيئة، وأنه يعمل لصالحه وأهله وبناته؛ هدف استراتيجي وعاجل، ولا يتأتى ذلك إلا ببلورة رؤية شاملة جديدة، وقد دعوت في مقالات عديدة إلى عصرنة الهيئة وتطوير أدائها، وتحديد أهداف واستراتيجية جديدة تدخل في صميم نفع المجتمع وأفراده، ولربما آن أوان ذلك، بأن تقوم الهيئة بعمل إعادة صياغة أهداف عبر علمائنا الشرعيين والمتخصصين الأمنيين وعلماء الاجتماع والنفس، لبلورة رؤية جديدة تتحدد فيها الأهداف الاستراتيجية والمرحلية، وطرق التعاطي مع أفراد المجتمع، فلا بد من كسب المواطن وإشعاره بأهمية رجل الهيئة في المجتمع، ولعلي أكرر أنها تكون عبر علمائنا الثقاة ودعاتنا العاملين، لنقطع الطريق على المتوجس خيفة، من تمييع هذا الجهاز وأهدافه.
رجل الهيئة صمام أمان للمجتمع، ولكن دعونا نساعده بتحديد طريقه وهدفه.