لا يجوز التحجير على أي شخص اختار رأيا خلافيا مبنيا على اجتهاد، حتى ولو من غير متخصص؛ طالما المسألة اجتهادية، حيث لم يكلف الله أحدا بأن يستعبد الآخرين ويُطوِّعهم ليكونوا تحت اجتهاداته، سواء أكان فردا أم جماعة
تناقشت مع بعض الزملاء قبيل اليوم الوطني وكانوا يتناقلون بعض الفتاوى القديمة حول تحريم الاحتفال باليوم الوطني كونه عيدا، وذكرت لهم أن المسألة اجتهادية وفيها اختلاف، وقبل أن أبدي رأيي في المسألة بادرني أحد الإخوة - وهو بلا شك ناصح جزاه الله خيرا- بأن الفتوى حرام ويجب اتباع كلام العلماء، طبعا هو يقصد العلماء الذين يتبعهم هو أو اعتاد على متابعتهم.
دفعتني هذه القصة إلى كتابة هذا المقال الذي أودّ فيه التنبيه على عدة أخطاء يخلط فيها الكثير من الناس وأحيانا يكون الخلط متعمدا من بعض المتعصبين لآرائهم.
فعندما يختار أحد الباحثين رأيا معينا بعد دراسة وبحث، وكان ذلك مخالفا لما هو معتاد لدى البعض؛ فإنه غالبا ما يتعرض للانتقاد وربما الوعظ والتشديد! ولكن هل كان ذلك الوعظ لأجل أنه اختار قولا يراه أقرب للحق بعد أن اجتهد في البحث عن الصواب؟ أم أنه بسبب اختياره قولا لم يعتد عليه البعض ويرغبون في تطويع الباحث لآرائهم؟
الحقيقة أن الله تعالى قال: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فقيّد السؤال في حال عدم العلم فقط، وقال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول) وليس الردّ والرجوع لأحدٍ غيرهما، فلا يحق لأحد أن يجبر آخر على اتباع رأي معين في مسألة اجتهادية تحتملها الأدلة، كما أن الغلوّ في التقليد فيه طعن في تجرّد العبودية لله وحده، وميل نحو صرف نوع من العبودية لغيره.
كما أن التضييق على الناس في اختيار آرائهم الشرعية فيه اعتداء على خصوصية الأشخاص وحرياتهم، خاصة في ما يتعلق بالآراء والممارسات الشخصية. كما أنني أرى أن فيه نوعا من الاعتداء على حق العبودية لله تعالى، حيث إنه لا أحدَ يجب على المسلم اتباعُه إلا كلام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، أما البشر فمهما كانت منزلتهم - غير الرسول عليه الصلاة والسلام- فإنهم غير معصومين ولا يجوز حتى تقليدهم إلا في حالة الجهل وعدم العلم.
فالحاصل أنه لا يجوز إجبار أحد على قول اجتهادي إلا على سبيل التشريع القانوني، بمعنى سنّ وتشريع الأنظمة لتستقيم حياة الناس وتعاملاتهم وليس في ممارساتهم الشخصية، وهذا لا يكون إلا باختيار ولي الأمر لأحد تلك الأقوال الاجتهادية، كما لو منع التعامل بشيء فيه خلاف كونه يرى مصلحة في ذلك، أما ما سوى ذلك فإن إجبار الناس على فتوى معينة لا يجوز، والله أعلم.
أما ضابط المسائل الاجتهادية، فهو ما احتمل النص والقواعد الشرعية لها، ولم يكن فيها إجماع أو نص قطعي الدلالة، كما هو معروف لدى علماء أصول الفقه، ولكن وللأسف؛ فإن بعض طلاب العلم اعتادوا على نقل دعاوى إجماعات غير صحيحة لأجل التضييق على الناس، بل أذكر أحدهم نقل دعوى إجماع شاذة من عالم مغمور على الرغم من أن الخلاف في المسألة مشهور ومعلوم! وهذا بلا شك من القول على الله بلا علم، حيث إن الإجماع دليل شرعي، وهذا يحاول تضليل الناس بهذه الدعوى مهما كانت نيته صالحة فهذه حقيقة فعله، وقد تحدثت عن هذا بتفصيل في مقال دعوى إجماع العلماء وحق إبداء الرأي.
كما لا يجوز التحجير على أي شخص اختار رأيا خلافيا مبنيا على اجتهاد، حتى ولو من غير متخصص؛ طالما المسألة اجتهادية، حيث لم يكلف الله أحدا بأن يستعبد الآخرين ويُطوِّعهم ليكونوا تحت اجتهاداته، سواء أكان فردا أم جماعة.
طالما حارب العلماء الكبار التقليد الفقهي والتعصب له، والبعض اليوم ربما أدان التقليد للأئمة الأربعة الذين شهدت لهم الأمة بالصلاح والإمامة، ولكنه في أفعاله يمارس التعصب والإكراه لتقليد علماء أو ربما حتى طلاب علم معاصرين!
ومن عيوب ما يسمى بـالصحوة أنها غير متنوعة الآراء، وتجد الكثير من الآراء الفقهية الخلافية هي محل مفاصلة على الرغم من أنها اجتهادية، وغالبا لا يخرج تيار الصحوة عن آراء مجموعة من المشايخ الذين لا يزيدون عن أصابع اليد الواحدة، وهذا بلا شك ضرها كثيرا وحدّها من التحرر والانطلاق نحو التجديد والتفكير اللذين يحتاجهما العصر ويستوجبهما بنظري، ولا شك لدي أن التضييق على المخالفين يؤدي إجبارا إلى الجمود والتخلف الفقهي والعلمي، شعر البعض أم جهلوا.
وهناك ممارسة أخرى يمارسها البعض لإجبار الآخرين على آرائه، فيستخدم الوعظ والتحذير من خطورة الفتوى لإسكات المخالف وإجباره على رأيه هو، وممارس هذا الفعل في حقيقته يريد الناس أن تتبع الآراء التي اختارها هو ويحاول منع الآخرين من أن يعودوا إلى الأدلة الشرعية ذاتها والتعبد للشارع الحكيم مباشرة! حيث لا يحق لأحد أن يدعي أن الحق معه في مواجهة غيره المجتهد، كما أن المحذّر للمجتهد هو في حقيقته مفتٍ ومتعدٍ لمقام الفتوى بما يحاول إكراه الآخرين على رأيه، وليس أحدهما بأقرب إلى الحق إلا بما يوافق كلام الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وليس أقواله هو أو من يتبع آراءه.
أما ما يتعلق بغير المتخصصين أو ما يسميه الفقهاء بـالمقلّد؛ فله كامل الحق في اختيار الفتوى من العالم الذي يثق به دون أي تقييد، ولا يحق لأحد أن يحاول إجباره أو محاولة ذلك كي يتبع رأي عالم آخر، بل لا يجوز حتى أن يسائله في اختياره، ومثل هذه التصرفات التي يقوم بها البعض هي في حقيقتها اعتداء على حق المسلم في الاختيار والحرية الشخصية، كما يأتي هنا الكثير مما ذكرته أعلاه أيضا.
على العكس مما يفعله البعض؛ فإنه يجب حض الناس على القراءة والبحث والاستنباط وليس محاولة تطويعهم لفكر شخص أو أشخاص معينين، كما أن اعتياد الناس على الفتاوى الجاهزة بدلا عن البحث والاطلاع عادة لها تبعاتها السيئة على فكر المجتمع وتعويد له على الخمول والكسل، والله أعلم.