نحن بحاجة لإعادة النظر في نظام الإرشاد النفسي والاجتماعي في الحقل التربوي، وهذا ما يستوجب 'تأهيل' النظام التربوي بأكمله سواء داخل المؤسسة التربوية أو خارجها
قُتل مؤخرا المعلم محمد بن بكر آدم برناوي، على يد أحد طلابه في مدرسة عثوان المتوسطة والثانوية ببني مالك، في محافظة صبيا بمنطقة جازان، بعد أن تطوع المعلم لفض اشتباك بين طلاب وشخص آخر داخل مدرسة، فسدد له طالب عدة طعنات بواسطة آلة حادة في فخذه وعضده، ففارق الحياة بعد وصوله للمستشفى بأقل من ساعة.
هذه القصة الخبرية المحزنة لهذه الجريمة البشعة، تُظهر إلى السطح نوعا من العلاقة المأزومة بين الأفراد في المجتمع، تبرز في المشهد التربوي وغيره على شكل خلافات ومشاجرات، وتُظهر هذه مشكلة ما في مجتمعنا الذي رغم محافظته الدينية والاجتماعية، إلا أنه يحوي أفرادا ذوي نزعة إجرامية كأي مجتمع آخر.
ولا بد من القول - بلا مواربة - إن المجتمع السعودي بشكل عام مجتمع مسالم بطبيعته، إذ إن الجرائم بمختلف أشكالها وأنواعها مجتمعة قد لا تتجاوز المعدلات والنسب الطبيعية في كل المجتمعات وهي 2,5%، وإذا تجاوزت هذه النسبة تكون هناك مشكلة حقيقية لا بد من معالجتها.
خاصة وأن المجتمع يعتمد غالبا على ما ينشر في وسائل الإعلام الرسمية لقراءة نسبة الجريمة في القضايا، ولكن تبقى هذه الرؤية في إطارها النظري المجرد، إذا لم تدعمها دراسات ميدانية، وأرقام وإحصاءات دقيقة يمكن الحصول عليها بسهولة.
تختلف المدارس العلمية في تفسير أسباب السلوك الإجرامي ودوافعه، ما بين عدة علوم منها الاجتماع، والتربية، والجغرافيا، والنفس، والاقتصاد، والطاقة، والبيولوجيا وغيرها، إلا أنه لا بد لكل جريمة من تفسير ينحى إلى علم من هذه العلوم، ولا سيما أن كل عامل له دوره الرئيس في ارتكاب الإنسان للجنح والجرائم.
ومهما يكن الأمر، لا غنى لنا عن الاتجاه للدراسات والبحوث والمؤتمرات والندوات في الجامعات ومراكز البحوث من أجل التعمق في علم الجريمة والمشاركة في تطويره، من خلال دراسة السلوك الإجرامي للإنسان، وإفادة مؤسسات التربية في تعميق مثل هذه العلوم في مناهجها وأنشطتها، مع التركيز على تغيير استراتيجيات الثواب والعقاب في الأنظمة والقوانين واللوائح.
لا بد من الاعتراف اليوم بوجود سمة مجتمعية تتمثل بـالعنف، وهي نتيجة لعوامل عدة، منها التغيرات الحضارية التي أسهمت بزيادة نسب الجرائم واختلفت حتى صارت الجريمة الإلكترونية أمرا واقعا في الكثير من المجتمعات العربية والغربية.
وتجدر الإشارة إلى أن ثقافة المجتمع ليست وحدها المسؤولة عن الجريمة، فهنالك أسباب فردية ونفسية واجتماعية وبيولوجية، تؤدي إلى الرغبة في الانتقام وتفريغ المكبوتات، كما أن هناك أسبابا اقتصادية وفي مقدمتها البطالة تُحدث خللا في نظرة الفرد إلى ذاته وإلى العالم الخارجي.
إن السؤال المطروح كعنوان لهذه المقالة لا يمكن الإجابة عنه بسهولة؛ لأن مثل هذه الجريمة لا تخص فردا بل مجتمعا بأكمله، وربما تتعلق بنظام تربوي وسياسات تعليمية عليا يجب أن يكون لها دور - في حدود مسؤوليتها - في البحث عن إجابة لهذا السؤال.
أيضا الشباب قضية مهمة جدا يجب أن تكون موضوعاً للبحث، وبالتالي جزءا أساسيا في الإجابة عن السؤال المطروح، ثم إننا بحاجة لإعادة النظر في نظام الإرشاد النفسي والاجتماعي في الحقل التربوي، وهذا ما يستوجب تأهيل النظام التربوي بأكمله، سواء داخل المؤسسة التربوية أو خارجها، فالمحك الحقيقي هو كيفية تحويل الطاقات البشرية من سلبية إلى إيجابية، وبالتالي يكون الفرد إنسانا بنّاء وفاعلا في وطنه ومحيطه ومجتمعه.
أعرف- بل إني متأكد - من أن الأمر ليس سهلا، ولكن علينا أن نسعى لإدراك النجاح على أساس أن كل تجربة للفرد والمجتمع ليست فشلا بقدر ما هي خبرة اجتماعية وثقافية وإنسانية، خاصة وأن عامل الخبرة هو المؤثر الرئيس في عمليات الإصلاح والتغيير، ولنتذكر أنه لو لم يسقط الطفل مرارا أثناء محاولته المشي لما تعلم المشي أصلا! وهذا ما يبعث على الأمل في أن تبنى التجارب والحلول التربوية في مؤسساتنا التربوية والاجتماعية على المنهاج العلمي، في إطار محدداتنا الثقافية والوطنية، لا على الرؤى الشخصية المجردة.