والسلفية التي أقصدها هنا، لا تلك التحزبات أو التيارات التي تعجّ بها الساحة الشرعية والسياسية، بل الإسلام النقي في أصوله ومعينه الأصفى، الذي يقصده علماء هذه البلاد وولاة أمرها عندما يؤكدون تمسكهم به، فالمقصود هو الكتاب والسنة بما فهمه السلف الصالح.
مناسبة مقالتي اليوم ما كتبه الزميل الدكتور حمزة السالم الأسبوع الماضي في صحيفة (الجزيرة) بعنوان: السلفية على فراش الموت، ولامست جوانب لم تمس قبلا، دعا فيها د.السالم الدولة للتخلي عن السلفية، وقال نصا: لم تَعُد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب اليوم إلا عبئاً على الدولة السعودية، بعد أن كانت مصدراً من مصادر قوّتها وعزّها. فالدعوة قد تخلفت تخلفا شديدا عن جميع مظاهر التطور الإنساني الهائل الذي حدث في العقود الماضية
وبالتأكيد لست مع ما ذهب له الصديق د. السالم، الذي صرح في حوار فضائي أخير له، بأنه لم يقصد الفهم الذي تبادر لنا من مقالته، وهو أحد المحبين والمناصرين للدعوة السلفية، وأحمد الله على ذلك، ولكن أحب الوقوف مع بعض ما جاء في تلك المقالة، وأولها مقارنته المجحفة بين دولتنا وتطبيقها لـالسلفية –بحسب وصفه- وبين دولة طالبان، فأية سلفية تلك التي طبقتها طالبان!! وعقيدة القوم هناك أقرب لـالماتريدية، فضلا عن تساهل كبير في المزارات وبناء الأضرحة على القبور، وشركيات يقف شعر الرأس لها، وقبل هذا وذاك، كيف نقارن دولة تقود حوار الأديان والثقافات على مستوى العالم، يتقدمها علماؤها ومفكروها، وبين دولة ذات رؤية دينية ضيقة جدا. برأيي أن المقارنة ظالمة، وثلمة كبيرة في المقالة.
لم تكن السلفية أبدا ضد انخراطنا في صميم الحداثة، والأخذ بأسباب التطور، والولوج في الحضارة الكونية، ولعل الأمير نايف بن عبدالعزيز – يرحمه الله- سبق لتوضيح هذه النقطة، فقد قال في ندوة (السلفية منهج شرعي ومطلب وطني) التي نظمتها جامعة الإمام: حسبما هو معروف بأن هذه الدولة المباركة قامت على المنهج السلفي السوي منذ تأسيسها على يد الإمام محمد بن سعود وتعاهد مع الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمهما الله-، ولا تزال إلى يومنا هذا بفضل الله وهي تعتز بذلك، وتدرك بأن من يقدح في نهجها أو يثير الشبهات والتهم حولها، فهو رجل جاهل يستوجب بيان الحقيقة له. إننا نؤكد لكم على أن الدولة ستظل- بإذن الله- متبعة للمنهج السلفي القويم، ولن تحيد عنه ولن تتنازل، فهو مصدر عزها وتوفيقها ورفعتها، كما أنه مصدر لرقيها وتقدمها، لكونه يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهو منهج ديني شرعي، كما أنه منهج دنيوي يدعو إلى الأخذ بأسباب الرقي والتقدم والدعوة إلى التعايش السلمي مع الآخرين واحترام حقوقهم.
كلمات واضحات من رجل عاش جلّ حياته في موقع المسؤولية والقرار، فيها إجابة صريحة لكل من يتهم المنهج السلفي بأنه جامد أو يحتضر، وولاة الأمر لدينا يوازنون بين متطلبات وتغييرات العصر، وبين تمسكهم بالسلفية، ولدينا شواهد عديدة، كالموقف من التلفاز والصور، وبطاقة المرأة..إلخ، كان النص الفقهي السائد لدى علمائنا، خلاف ما يتطلبه الأمر، ولكن للمرونة الفقهية وسعة صدر العلماء لاجتهادات بعضهم، مضت الأمور، وتنازل كثير من أولئكم العلماء أوتوقفوا، وتركوا حسم تلكم القضايا لولي الأمر، بما يراه من مصلحة للمجتمع والناس.
دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب السلفية هي روح هذه الدولة، وهل يحيا الجسد بلا روح؟ ومعاهدة الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب بقيت طيلة أطوار الدولة السعودية الثلاثة، ولم تك عائقا أو عبئا، بل كانت شرفا وفخرا لقادة هذه البلاد، الذين حملوا هذه الرسالة على عواتقهم، وهم يلهجون بالشكر لله تعالى أن اصطفاهم لتلك المسؤولية، ودونكم مقولات ملوكنا منذ الملك المؤسس عبدالعزيز -يرحمه الله- إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله -يحفظه الله- فلا تمر مناسبة إلا ويعلنون فخرهم بحمل رسالة الإسلام والدين، ولم تك السلفية والدعوة الإصلاحية والرسالة المحمدية عائقا أبدا أمام الدولة، حتى لو اختلفوا في بعض التفاصيل، بل إنهم يدفعون أكلافا دولية باهظة بسبب تمسكهم بهذا المنهج الذي يفخرون به، لمعرفتهم أن عزّ هذه الدولة بحمل الرسالة، التي إن تخلوا عنها – بما يطالب البعض- تخلوا عن موقعهم في قيادة العالم الاسلامي برمته.
علماء الدعوة الإصلاحية لهذه البلاد، كانوا يقومون بأدوارهم، ويعرفون حدودهم، وتاريخنا الحديث يخبرنا كيف كانت مواقفهم مع الملك المؤسس يرحمه الله في السبلة وغيرها، ثم مع الملك سعود وتنازله، ثم وقوفهم مع الملك فيصل والناصرية التي دهمتنا، وكيف كانوا ضد جهيمان والطغمة التي معه مع الملك خالد، ومواقفهم أثناء حرب الخليج الثانية، وضد القاعدة والإرهاب الذي التاث بفكره بعض أبنائنا في عهد الفهد، وربما آخرا وليس أخيرا، في تظاهرة حنين التي راهن القريب والبعيد على زلزلة ستحدث في بلادنا، ولكن الدور الكبير الذي قام به علماؤنا بمنهجهم السلفي الذي يحرّم الخروج على ولاة الأمر، وأد تلك الفتن، فضلا عن حب الشعب لرجل اسمه عبدالله بن عبدالعزيز.
العلماء هم الركن المتين في استقرار البلاد، وهم المناصرون الحقيقيون لهذه الدولة وولاة أمرها.
سأختم بما كان يردده عبدالعزيز بن عبدالرحمن مؤسس هذه الدولة، ويوجه به أبناءه كركائز وأركان ومسلمات لرؤية حكام هذه الدولة: إننا لا نعتز بشيء أكثر من اعتزازنا بأن وفقنا الله لتطبيق شرعه المطهر وإقامة حدوده كواجب نقدمه ولا نميل عنه، وشرّفنا الله بحمل الدعوة الإسلامية، هذا هو عزّنا وعزّ دولتنا، وسرّ نجاحنا الذي ربما جهله الكثيرون. كلام من ذهب وإبريز خالص، بل خارطة طريق لدولتنا من رجل حكيم، بعيد النظر..
أيها السادة، معاهدة الإمامين ضمان أكيد لقوة وديمومة دولتنا.