على النقيض من العراق، ارتبطت كل من ألمانيا واليابان ارتباطا استراتيجيا وثيقا بالولايات المتحدة، بعد سيطرتها عليهما، وأصبحت حمايتهما جزءا لا يتجزأ من الحماية والدفاع عن أميركا

منذ أن دكت جحافل الماكينة العسكرية الأميركية العراق، وأدخلته في أتون الحروب العرقية والطائفية، وفرت منه فرار الحمر المستنفرة التي فرت من قسورة؛ أصبح نهبا لمؤامرات تضرب وتقطع كيانه من الداخل ومن الخارج، كل يضرب منه ما يشاء، ويستحوذ فيه على ما يشاء، ونحن ـ وللأسف الشديد ـ نسمع ونقرأ من وقت لآخر من بعض ممن يحسبون على العلم السياسي والاستراتيجي وحتى الثقافي، لوما للعراقيين، لماذا لم يصبحوا مثل اليابانيين والألمان، دولة متقدمة، بعد أن هزمتهما أميركا، في الحرب العالمية الثانية؟! طبعاً مثل هذا السؤال ينم عن قصر في معلومات من يردده، وخاصة المتعلقة بالظروف والأوضاع والمعطيات، التي أدت وتزامنت وتلت هزيمة أميركا لليابان وألمانيا.
قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، ظهر واضحاً بأن أكبر قوتين ستخرجان من الحرب منتصرتين، هما رأسا سهم قوات الحلفاء، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، أما دول بقية الحلفاء وهما: بريطانيا العظمى وفرنسا، فستخرجان من الحرب قوتين من الدرجة الثانية. زحفت القوات السوفيتية من ناحية الشرق إلى ألمانيا، وسيطرت على دول شرق أوروبا، وهي تشق طريقها ناحية ألمانيا. كما أن القوات الأميركية شقت طريقها من الغرب، زاحفة على ألمانيا؛ لوضع ألمانيا بين فكي كماشة الحلفاء، وفرض الاستسلام عليها. دخلت قوات كل من أميركا وروسيا ألمانيا، واحتلت القوات الروسية شرق ألمانيا والقوات الأميركية غرب ألمانيا؛ لدرجة تقاسمتا حتى العاصمة برلين.
وفي ألمانيا، حيث تجابهت القوتان الأميركية والسوفيتية وجهاً لوجه؛ ولأول مرة في تاريخهما، أخذ كل منهما يمترس جيوشه في مكانها. وهنا تقسمت ألمانيا إلى ألمانيا غربية وألمانيا شرقية، الغربية تحت الاحتلال الأميركي والشرقية تحت الاحتلال السوفيتي، وكل منهما يخشى غدر الثاني به والزحف عليه. وكان هذا إعلان تدشين الحرب الباردة بين القوتين.
بعد هزيمة ألمانيا، تم نقل جزء كبير من القوات الروسية شرقاً؛ للقتال بجانب حليفتها القوات الأميركية، والتي كانت تهم بغزو جزيرة اليابان نفسها وقد كان مقدرا بأن يموت من القوات الأميركية أكثر من نصف مليون جندي، للسيطرة فقط على جنوب اليابان. القوات السوفيتية وصلت لجزر سخالين الواقعة شمال اليابان، والتي كانت تابعة لروسيا؛ ولكن اليابان استولت عليها بعد الحرب الروسية اليابانية عام 1905. قبل البدء بتنفيذ الخطة المشتركة بين القوات الأميركية والروسية لغزو اليابان؛ كانت القوات الروسية والأميركية قد نفذت عمليات مشتركة في ميادين القتال في الشرق الأقصى، حيث غزت كلتا القوتين كوريا وفيتنام. ولذلك أصبح هنالك فيتنام شمالية وكوريا شمالية، تحت النفوذ السوفيتي وفيتنام جنوبية وكوريا جنوبية، تحت السيطرة الأميركية.
الولايات المتحدة الأميركية قررت عدم السماح للجيش الروسي، بغزو اليابان، خوفاً من أن يتقاسم الروس معها اليابان، كما تقاسموا معها ألمانيا وكوريا وفيتنام؛ ولذلك طلبت من الحكومة الروسية تأجيل الغزو. بقايا الحكومة اليابانية كانت تعد خطة للاستسلام لقوات الحلفاء، قبل غزوها؛ وهذا قد يعطي القوات السوفيتية الحق، في تقاسم اليابان مع أميركا. ولذلك قامت أميركا بإلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناجازاكي، واستسلمت لها اليابان، وأنزلت قواتها بسرعة لاحتلال الجزيرة اليابانية كلها.
وقد ذكر المؤرخون الأميركيون الجدد، بعد اطلاعهم على الوثائق السرية، بعد فسحها للباحثين، أن استخدام القنابل الذرية على اليابان، لم يكن القصد منه استسلام اليابان، حيث كانت الحكومة اليابانية وبالتنسيق مع الأميركيين يعدون بالسر وثيقة الاستسلام. ولكن الولايات المتحدة ضربت اليابان بالقنابل الذرية، من أجل ردع القوات السوفيتية من الزحف للجزيرة اليابانية، لتنفيذ الخطة التي أعدت مسبقاً بينهما. حيث قالوا: إن أميركا أعدت القنابل الذرية لقصف ألمانيا بها، فقصفت بها اليابان، من أجل ردع الروس، وهكذا استولى الأميركيون على اليابان، ليس فقط من أجل الانتقام منها، لقصفها أسطولها الحربي في بيرل هاربر، وتدمير بوارج وحاملات طائرات وغواصات وطائرات قواتها البحرية، وقتل أكثر من ألفين وخمسمئة بحار؛ ولكن لجعلها قاعدة متقدمة لها، على حدود الاتحاد السوفيتي، لحماية وجودها في الشرق الأقصى، والتفرد به. كما خططت لجعل ألمانيا قاعدة متقدمة لها في أوروبا، لحماية غرب أوروبا من الزحف الشيوعي، المدعوم من قبل الاتحاد السوفيتي وردعه من فعل ذلك.
في الحالة الألمانية؛ أخذت الأحزاب والتنظيمات الشيوعية واليسارية في أوروبا الغربية تكتسح في معظم الانتخابات التي أجريت في دولها، بسبب الدمار والفقر اللذين عماها بعد الحرب، مما أخاف الولايات المتحدة، وعملت ليس فقط من أجل تحسين وضع أوروبا الغربية وحفظ مصالحها فيها؛ ولكن أيضاً لجذب شعوب دول شرق أوروبا، والتي أصبحت تحت سيطرة القوات الروسية، لتبني النظام الرأسمالي والمطالبة به. ولذلك بدأت بتنفيذ خطة مارشال، لإعادة أعمار أوروبا الغربية واليابان. تتكون خطة مارشال من ضخ مليارات الدولارات كقروض لها؛ ليس فقط للدعاية للرأسمالية، ولكن أيضاً للمكاسب التي ستعود على أميركا جراء سداد القروض بعد فترة، والتي أيضاً ربطت بشراء مستلزمات إعادة الإعمار من أميركا، وأن يتم الإعمار بواسطة شركات أميركية.
وجزء رئيسي من هذا الدعم الأميركي لغرب أوروبا واليابان، الطاقة رخيصة الثمن جداً، التي أخذت تتدفق عليهم من الشرق الأوسط، وبترول العراق بالطبع منها؛ أي بأن مشروع مارشال لإعادة أعمار أوروبا واليابان، أتى على حساب دخل دول الشرق الأوسط واحتياطي مخزونها من النفط، ولمدة 50 سنة. فعندما تم رفع سعر برميل البترول بعد حرب 1973، قال كيسنجر، وزير خارجية أميركا حينها، لوزراء الخارجية الأوربيين، لقد انتهى مشروع مارشال بالنسبة لكم، ويجب أن تعتمدوا من الآن على أنفسكم.
كما أن ألمانيا واليابان كانتا دولتين صناعيتين عظميين، قبل الحرب العالمية الثانية؛ وإلا لما دخلتا الحرب، ضد أميركا وروسيا، ودول أوروبا قاطبة، وصمدتا أمامها، ولمدة ست سنوات. ألمانيا واليابان كانتا تصنعان سلاحهما بنفسيهما، مثل حاملات الطائرات والبارجات والغواصات، والدبابات والمدافع وحتى الصواريخ. وكانت كل منهما لا تمتلك القدرة الصناعية فقط، ولكن حتى القدرات التقنية، وتنافس بها مثيلاتها في العالم.
هذا بالإضافة إلا أن الدولة في ألمانيا واليابان، راسخة، ولها جذور مؤسسية ضاربة في القدم. والدولتان كلتاهما كانتا تداران بواسطة نظام ديموقراطي يعتمد على تداول السلطة، بين الأحزاب الوطنية العريقة فيهما. أي بأن لدى الدولتين كلتيهما إرثا ديموقراطيا ومؤسسيا ناضجا، مع كون حزبين فاشيين تمكنا من الوصول للسلطة عن طريق الانتخابات، قبل بدء الحرب بسبع سنوات، وأدارا بلديهما إدارة حربية عدوانية، أدت إلى نشوب الحرب، بينهما والعالم.
إذن، ارتبطت كل من ألمانيا واليابان ارتباطا استراتيجيا وثيقا وحيويا بالولايات المتحدة، بعد سيطرتها عليهما، وأصبحت حمايتهما جزءا لا يتجزأ من الحماية والدفاع عن أميركا، كما ربطت اقتصاد كل منهما باقتصادها. العراق هي دولة من دول العالم الثالث، حاصرتها وجوعتها أميركا لعشر سنوات ودكت بنيتها التحتية والفوقية، ثم غزتها وفككت دولتها ونشرت التعذيب فيها، ثم فرت منها، وتركت أهلها كالأيتام على مائدة اللئام.