نشأ مصطلح 'العولمة' وسوق له المفكرون الأميركيون، لجعل العالم ذا قطب واحد، وإبعاد المجتمعات القومية وإزاحة مفهومها القومي، وكان ذلك في ظل تراجع الاتحاد السوفيتي والتغييرات التي حدثت بعد سقوط جدار برلين
لم يكن أحد منا يتخيل هذا الاحتدام في بلادنا، نتيجة ذلك التغير فينا، وفي العالم من حولنا بقدر هذه السرعة الرهيبة من انضغاط الزمن! فحين ظهر مصطلح العولمة كنا بوصفنا مثقفين عرباً نعمل على المؤتمرات المحلية والدولية والمشاركات الورقية وإصدار التوصيات لمناهضة هذا الفكرالفلسفي الجديد، الناتج عن تحولات تقنية واقتصادية وثقافية وبالتالي سياسية. ولم نكن نحن العرب من يناهض ذلك ويتخوف منه بقدر مناهضة كثير من المثقفين في أنحاء العالم لها. يقول ورويك مواري وهو أحد مفكري العولمة: إن العولمة تشكل تهديداً للمجتمع والمحيط المحليين بطريقة تعيد أصداء الاستعمار في الماضي. كما يرى هو وآخرون أن من المجموعات التي هُمشت بالفعل، خاصة في العالم الفقير هي من تنمو فيهم العولمة ولا تتقلص. وكأنهم تلك البركة الراكدة أو المستنقع التي يتكاثر فيه البعوض!
واحتدمت الجدلية بين مناهض ومعارض حسب المصلحة والاستفادة منها، كونها تعمل على ضغط الزمان والمكان، أو بمعنى أدق تعمل على موت الجغرافيا؛ لكي يحيا على رفاتها العالم الأوحد ذو القطب الواحد، مستخدما تكنولوجيا العولمة وخاصة الإنترنت، لنشر رسالتها؛ فجلبت أنصارا غير عاديين، مثل جوزيف ستيغلتز، وهو الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد ورئيس اقتصاد البنك العالمي السابق، الذي يرى: أن الاجتماعات الهادئة سابقا لتكنوقراطيين مغمورين يناقشون مواضيع عادية مثل القروض الميسرة أوالحصص التجارية أصبحت الآن مشهدا لمعارك محتدمة، ومظاهرات ضخمة في الشارع؛ وكانت احتجاجات سياتل لمنظمة التجارة العالمية في عام 1999 صدمة منذ ذلك الحين، وأصبحت الحركة قوية أكثر، وانتشر الغضب. كل اجتماع رئيس لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية هو الآن عمليا مشهد للصراع والاضطراب. وكان موت أحد المتظاهرين بجنوى في عام 2001 بداية لما يمكن أن يسبب خسائر إضافية في الحرب ضد العولمة، ومن الواضح للكل تقريباً أن شيئاً ما قد ساء بشكل مرعب.
وفي حقيقة الأمر، أن ستيغلتز قد سبقنا بكثير في استشعاره لهذا الرعب الذي نعيشه الآن، والذي تنبأ به منذ سقوط أول ضحية في مظاهرات منددة! بل لو أنه كتب رأيه هذا الآن لكانت مصيبته ورعبه متفاقمين!
ومما يحزنني عدم الفهم لمعنى العولمة ومفهومها من بعض رموزنا الثقافية، وتلك مصيبة عملت على تفاقم المشكلة؛ ففي تقرير نشرته صحيفة اليوم السعودية عن العولمة نجد خلطاً بين العولمة والعالمية، برغم ذلك البون الشاسع بينمها فيقول أحدهم: إن الإسلام عالمي وبالتالي فلا ضير! ولم يدرك ذلك الفرق الكبير في أن الإسلام يعمل على اتساع الجغرافيا بينما العولمة تضغطها (ضغط الزمن) ولها مدرسة جديدة في كل المجالات، لتفكيك العالم.. لدمج الكل في واحد، وهنا تكمن المشكلة في سوء فهمنا للعولمة.
وعلى أية حال، فهناك تعريفات عديدة للعولمة؛ يقول تايلور وآخرون: العولمة مفهوم سلس ومرن جداً يصعب التعامل معه، أما دنيالز وآخرون وهم يسلطون الضوء على الجدل حول استعمال المصطلح وتعريفه فيقول: إنه مصطلح متنازع عليه يرتبط بتحول العلاقات المكانية التي تشمل تغييراَ في العلاقة بين المكان والاقتصاد والمجتمع. أما روجروك وفان تولد في كتاب عن العولمة (التحولات العالمية) فيرى أن العولمة هي عملية أو مجموعة عمليات تجسد تحولاً في التنظيم المكاني للعلاقات والمعاملات الاجتماعية التي تُقَّيم من حيث اتساعها وانتشار كثافتها وسرعتها وتأثيرها، مولدة تدفقات وشبكات من النشاط والتفاعل وممارسة للسلطة عابرة القارات وإقليمة.
ومما لا شك فيه، أن من المهمات الكبرى للعولمة محو القومية والهوية؛ يقول ووترز: هناك تمرين مفيد للبحث عن التعريف وهو كيف سيبدو عالماً معولماً بكل معنى الكلمة؛ مجتمع واحد وثقافة عالمية متجانسة واقتصاد عالمي واحد، وغياب الدول القومية... وهي عملية تتراجع فيها قيود الجغرافيا على التنظيمات الثقافية والاجتماعية.
وهنا يكمن الانضغاط الزمكاني كما يرى هارفي في عام 1979. ولعل أقرب هذه التعريفات، وهو ما ينطبق على ما يجري في وطننا العربي اليوم، هو تعريف ورويك مواري، وهو أن العولمة هي مجموعة من عمليات الأفعال البشرية الجدلية التي تُحدث شبكات محلية - محلية فردية - فردية من التضمين/ الضغط، والتي تتجاوز بشكل متزايد الحدود الوطنية/ الإقليمية وتتمدد لتصبح عالمية في الحجم!
وهذا ما امتدحه فريدريك وأنديك وفريدمان، وغيرهم في مؤتمر الربيع العربي في المعهد البريطاني للتغيير عام 2012 للشباب العربي الجديد، حيث قالوا إنهم أفضل من آبائهم لأنهم يتمتعون بثقافة خارجية ولا يؤمنون بالقومية والهوية من وجهة نظرهم؛ وقد تناولنا ذلك بشيء من التفصيل في مقال سابق (الأناركية).
وللتغييرات الواسعة في الجغرافية البشرية هدف لتحقيق هذه المدرسة الفكرية، وخاصة المنعطف الثقافي، ويحاول هذا الحقل المعرفي الفرعي الآن أن يقدم تفسيرات كلية للتغيير، وهو أكثر حساسية للتاريخ وتفرد المكان، وهو أكثر رغبة في التعامل مع الجذور الثقافية التي تقود الفكر والاقتصاد، ويدمج التحليل النوعي لفهم النشاط وتأويله.. والأهم هو الإدماج للتحليل الأخلاقي (بمعيار الصواب والخطأ للتغيير) كما يرى مواري.
إن من أنشأ المصطلح وسوقاً له هم المفكرون الأميركيون، لجعل العالم واحدا وذا قطب واحد مع إبعاد المجتمعات القومية وإزاحة مفهومها القومي، وكان ذلك في ظل تراجع الاتحاد السوفيتي والتغييرات التي حدثت للعالم بعد سقوط جدار برلين عام 1989؛ إلا أننا نرى أن الأخير يعود وبقوة لأحداث التوازن في كتلتين كانت إحداهما متوارية أو خافتة بعض الشيء؛ لينافس على من هو الفائز بقطب العولمة كونها أصبحت واقعا؛ ويمكن أن تكون إيجابية، لأن موراي يقول: العولمة ليست قدرا محتوما ولا تتبع مسارا تطوريا. بالأحرى، فهي نتيجة لأفعال بشرية ولاختيارية سياسية محددة. الآثار السياسية لهذا الرأي إصلاحية، فللمواطنين وللدول القومية دور تؤديه في مقاومتها وضبطها، والعولمات البديلة والتقدمية ممكنة. على هذا النحو، يمكن للعولمة أن تسفر عن نتائج إيجابية أو سلبية اعتمادا على الطريقة التي تبنى بها . فالمهمة الأساس إذن هي تغيير طبيعة العولمة من خلال الفعل البشري، وبالتالي نجد هذا التقابل بين الميزانين الظاهر في الأفق على الساحة السياسية بين أميركا وروسيا، على أن تفوز إحداهما بالثقل الاقتصادي في منطقتنا والتي نعدها ـ بطبيعة الحال ـ وقود التحقق العولمي وقيادة القطب الواحد على حساب الآخر.