لم تكن المساحة الزمنية المتاحة أمام المتحاورين قصيرة أو غير كافية، ولكن فريق المائتين كفيل بإيصال البلاد إلى مشارف القيامة قبل تحقيق النتائج المرجوة من الحوار

نبهنا مراراً من مخاطر وضع الحوار الوطني في اليمن على فوهة البركان أو تطويعه في مصلحة أطراف الصراع. وقلنا إن أوضاع هذا البلد تزداد سوءاً كلما جرى التعويل على حسن النية تجاه معاول الهدم التي تناوبت على إنهاكه توافقات الإخوة الأعداء قبل وبعد الوحدة. ولم تكن البدائل التي تثيرها بين فينة وأخرى تراهن على صمم الداخل قدر الثقة بالأشقاء وآليات العمل المشترك لدول المبادرة الخليجية، ومتابعتها المؤسسية التي لا تستنكف سماع الآراء المنبعثة من أنين الضحايا والمعبرة عن تطلعات شعب هدته ثقافة عصبوية أثمرت صراعاً عدمياً لم نجد من مخرجاته غير صدامية صالح وانتقائية الإخوان وأممية الانفصال. بيد أن فكرة (الخمسة نجوم) غدت مكاناً لانعقاد فعاليات المؤتمر كما صيرها التقاسم إلى شريحة تواصل بين مواطني الدرجة الأولى والدولة من جهة وبينهما معاً والدول العشر الراعية من الجهة الأخرى، وأحسبها نفس الفكرة والشريحة التي فصلت الحوار بمقاس النخب المأزومة واستثنت شعباً من الفقراء!!
اليوم سيهرع الأشقاء والعالم لإنقاذ التسوية السياسية في اليمن بعد تواتر الأنباء عن انقسام اللحظات الأخيرة من مجريات الحوار على مستقبل 90% من السكان يعيشون تحت خط الفقر! أثق أن أموالاً طائلة ستضخ إلى جيوب متعهدي الإطفاء من بشمركة نصف النظام السابق وسدنة الربيع اليمني المصلوب على جذع أزمة تتغذى على التخلف والارتهان وتستغبي المجتمع بمشجب التثاقف الحداثي المزور.
إن كان الجور والاستحواذ يقفان خلف صيحة الانفصال المدوية في أفواه معظم أبناء المحافظات الجنوبية فإن الانفصاليين من الأساس هم ولا شك من يستخدمون (فيتو) الوحدة لإعاقة الحوار كما رفعوا شعارها ذريعة للانقضاض على وثيقة العهد والاتفاق.. والتاريخ ـ هنا ـ لا يكرر نفسه وحسب وإنما يتغوط فوق ذاكرة الناس؟
قبل التوقيع على المبادرة الخليجية قالت الحركة الديموقراطية للتغيير والبناء في بيان مناشدة لأشقاء اليمن وأصدقائه، إن خروج البلاد من النفق المظلم مرهون بوضع ما لا يزيد على 200 شخصية سياسية قيد الإقامة الجبرية في جزيرة نائية، ولكل طرف من طرفي الصراع ترشيح 50% من هؤلاء طالما يعتبرهم سبباً فيما منيت به اليمن من كوارث. وإني لأزعم أن معظمهم شاركوا في الفعاليات الحوارية وبعثوا الرسائل الفورية من هواتفهم النقالة بضرب أنابيب النفط ونسف خطوط الكهرباء وتطويق اليمنيين بالمخاطر.
أعلم ما لدى القيادات السياسية التقليدية من خبرة في تتويه أشقاء اليمن وأصدقائه وما يبذله كل طرف من جهد ـ لا في مصلحة البلاد ـ ولكن لاستعداء الخارج ضد خصومه لدرجة التحريض العلني ـ وما خفي.. ـ ضد الرئيس الانتقالي وتحميله مسؤولية الانحياز للتجمع اليمني للإصلاح لمجرد رفضه الانصياع لسلفه أو اعتبار نفسه صورة منه..؟ يقال هذا مع أن المبادرة الخليجية لم تمنح الرئيس هادي غير صلاحية البت فيما يختلف عليه طرفا الصراع داخل حكومة يقودها متنفذ بالسخرة وتدير عملية التقاسم بنجاح فائق، على حين أخفقت مختلف قوى الصراع في خطف الرئيس عبدربه منصور، لصالح أيّ منها ضد الآخر..
ومن غير مداورة أو غموض فإن قواعد اللعبة السياسية في اليمن ترتكز على سيادة العقل العصبوي وتمجيد الأزمة وادخارها، والرهان على تعدد أنماطها وأسواقها وشعاراتها ومذاهبها وجغرافيتها لا بوصفها منتج المجتمعات المتخلفة وناظم علاقاتها القبلية والمذهبية والقروية، ولكن بكونها أهم المصادر المدرة للربح السريع وإحدى طرق الاستثمار الآمن لطبقة من قيادات الصف الأول في السلطة والمعارضة!
وطالما كانت الأزمة ممكنة فليس مهماً تبعاتها كما لا ضرورة لإضاعة الوقت على سبيل بحث التوقعات الأولية حول كلفتها العالية من الأرواح والدماء، ولكن المهم مدى وحجم المردود السريع لهذه البؤرة الملتهبة أو تلك.. قد تكون الأزمة حرباً بالوكالة متى اقترن نشوؤها بمتطلب خارجي لكنها في الغالب حاجة تمليها قوة العادة لتتحول فيما بعد إلى سلعة للعرض على مصدر تمويل!
عندما بدأ فرقاء الصراع بحث الترتيبات المطلوبة لإنجاز مؤتمر شامل للحوار الوطني ساد المجتمع خدر لذيذ ساحر آسر من التفاؤل بإمكانية انتشال الوضع من قاع التشظي والاحتراب، ولاحت بوادر ابتهاج في أوساط الضحايا وتحديداً قوى التغيير غير المتورطة باحترابات وفساد وأزمات الماضي، لكن سرعان ما بدد الفرقاء تلك المباهج!
وما حدث أن القيادات التاريخية بتجاربها العتيدة في تفخيخ الفرص أجلت ثأراتها البينية وعملت ـ على قلب رجل واحد ـ من أجل زرع العبوات الناسفة ضمن قواعد وشروط وأطراف مؤتمر الحوار، مؤثرة الكمون في قلب العملية الحوارية وتربص آخر وأدق مراحل المؤتمر الوطني ومن ثمة محاولة التنصل منه والنيل من توافقاته والعمل على نسف مخرجاته. فقه الأزمة لا تعوزه المبررات المختلقة لكنه يعمل بذاكرة مثقوبة.
تتقابل المفارقات المؤسفة في أدق مفاصل الحلم.. إذ كيف تكون الوحدة شرطاً للموافقة على نتائج الحوار والاعتراض على التمديد لرئيس من مواليد الجنوب سلوكاً يرسخ الوحدة أو يقنع الآخرين بها؟ بل كيف تكرس جهود الداخل والخارج على استقطاب بعض فصائل الحراك الانفصالي إلى طاولة الحوار بينما لا يمد وحدويو الشمال أيديهم لجنوبي تجاوز الانحيازات الشطرية والمناطقية وذاد عن الوحدة بتجرد وداس على عواطفه والطائرات الحربية تلقي حممها على مسقط رأسه وبأوامر منه خلال أخطر حروب اليمن ضد تنظيم القاعدة؟
وكيف لك أن تحكم اليمن 33 عاماً وينتهي بنا الأمر إلى كل هذا الخراب بينما تستكثر على غيرك مسؤولية الحكم لعامين وترى في تمديد فترته الرئاسية 5 أعوام معضلة تهدد مستقبل الوطن؟!
لم تكن المساحة الزمنية المتاحة أمام المتحاورين قصيرة أو غير كافية ولكن فريق المائتين الذي أسلفنا الحديث عنه كفيل بإيصال البلاد إلى مشارف القيامة قبل تحقيق النتائج المرجوة من الحوار، أي حوار سواء حضرته القضية الجنوبية أم غابت عنه ما يجعل مهمة الرئيس عبدربه منصور هادي، المستقبلية شبيهة بعملية نزع ألغام دون خارطة تبين مواقعها على أرض متعرجة! ومجدداً هل يتفهم الأشقاء ماهية الظروف المحيطة بمن ستؤول إليه رئاسة هذا البلد أم يترك لوحده يخوض تحد الحفاظ على وحدة اليمن - أحد دعامات استقرار المنطقة - دون إسناد كامل ونافذة واحدة للتعامل!
سوف يغدو الأمر سيئاً لو لم يتوج الحوار جلسته الختامية اليوم الخميس بعد إرجاء يوم عمّا هو مقرر سلفاً، أما لو عاد المتحاورون من فرقاء الصراع والشركاء المتقاسمون حكومة الوفاق إلى نقطة الصفر إثر انقضاء نصف عام على ماراثونهم الحواري فإن رسالة الضحايا للأشقاء والأصدقاء (هذه بضاعتكم) وكذلك تكون نتائج التجريب بالمجربين، وإن الله لا يصلح عمل المفسدين.