إذا لم تستطع هذه التقنية العالية رصد هلال رمضان تلك الليلة فكيف يستطيع أحد الادعاء بأنه رآه بالعين المجردة ولدقائق طويلة قبل غروب الشمس، وعلى ارتفاع أقل من درجة بعد غروبها ونسبة إضاءة لا تكاد تُذكر، إضافة إلى سوء الأجواء في سدير وشقراء في ذلك الوقت الحرج؟!
أصدرت المحكمة العليا بيانا عن دخول شهر رمضان المبارك تضمَّن أنه بدراسة وتأمل ما ورد إليها بشأن رؤية هلال شهر رمضان المبارك لهذا العام فقد ثبت لديها رؤية هلال شهر رمضان مساء الثلاثاء، ليكون الأربعاء الموافق 11 /8 /2010م أول أيام شهر رمضان.
ومع أن دخول الشهر صحيح بالمعيارين اللذين تعتمدهما مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، وهما: أن يحدث الاقتران قبل غروب الشمس، وأن يغرب القمر بعد الشمس على أفق مكة المكرمة، إلا أن الرؤية بالعين المجردة لهلال رمضان في تلك الليلة مستحيلة.
ولم توضح المحكمة الموقرة، كالعادة، أية تفاصيل عن الرؤية التي اعتمدتها. وهذه التفاصيل مهمة للباحثين والمهتمين ـ إن لم يكن للناس جميعا. وقد دخلتُ موقع المحكمة العليا، الذي تجمد عند طلب ترائي هلال رمضان، فوجدته يخلو من أي شيء عن هلال رمضان نفسه، ولا تزال نافذة الأهلة فيه تحت الإنشاء.
ويترك غياب المعلومات الدقيقة المجالَ لما يشاع عما حدث مساء الثلاثاء (10 /8 /2010م). ومن ذلك أن المحكمة العليا أدخلت الشهر بناء على شهادة شاهدين من منطقة شقراء. وهذان الشاهدان اشتهرا بالتقدم بالادعاء بـرؤية الهلال في سنوات ماضية عديدة. وكانت شهادتهما تقبل في أكثر الأحيان مع مخالفتها للواقع الطبيعي للهلال.
وإذا كان هذا صحيحا فيَلزم القولُ إن تلك الرؤية لا تنفك عما يكذِّبها. إذ تستحيل رؤية الهلال في تلك الليلة بالعين المجردة، بل حتى بالمناظير المقرِّبة، في شقراء وسدير لأن ارتفاعه في أفقهما كان أقل من درجة ونسبة إضاءته تكاد تكون صفرا. بل إنه لا يمكن رؤيته، بالوسيلتين، حتى في أفق مكة المكرمة لأن ارتفاعه لا يزيد عن درجة واحدة إلا قليلا، ونسبة إضاءته قريبة من الصفر.
ويتوافق الحكم بعدم إمكان رؤية الهلال عند هذه الدرجة المنخفضة مع رأي ابن تيمية (الفتاوى، ج25، ص185) إذ يقول عن الهلال: إذا كان بعده ـ مثلا ـ عشرين درجة، فهذا يرى ما لم يحل حائل، وإذا كان على درجة واحدة فهذا لا يرى، وأما ما حول العشرة، فالأمر فيه يختلف باختلاف أسباب الرؤية.
فمن التناقض الواضح، إذن، أن يقبل رأي ابن تيمية في منع الحساب لإثبات الهلال ولا يقبل رأيه في استحالة الرؤية حين يكون الهلال على ارتفاع درجة!
ولم يقتصر الأمر على الادعاء برؤية الهلال بعد مغرب ذلك اليوم بالعين المجردة على الرغم من استحالة تلك الرؤية. فقد فاجأنا الأستاذ عبد الله الخضيري (المشهور بـالرائي) برؤيته الهلال ـ مع آخرين ـ قبل غروب الشمس لمدة أربع دقائق!
وتتعارض رؤية الخضيري النهارية! ورؤية الشاهدين من شقراء الليلية! مع عدم رؤية أحد من المختصين والمهتمين الموثوقين الهلالَ تلك الليلة في أي بلد إسلامي. بل إنه لم ير ـ قبل غروب الشمس وبعد غروبها ـ حتى بالتقنية الجديدة CCD Imaging التي تتكون ـ كما يقول المهندس محمد عودة مدير المشروع الإسلامي لرصد الأهلة ـ : من تلسكوب صغير، وكاميرا فيديو متخصصة توضع على التلسكوب، يتم توصيلها على جهاز حاسوب، بحيث يقوم برنامج متخصص بمعالجة الصور، وتقوم الكاميرا بالتقاط مئات من الصور، يقوم الحاسوب بتجميعها، ليظهر منها الهلال المصور. وتتميز هذه التقنية الحديثة، بأنها قادرة على رؤية أهلّة رقيقة جدا، لم يكن بالإمكان رصدها من قبل، بل ويمكن تصوير الهلال في وضح النهار، وهو ما كان مستحيلا بالوسائل المعتادة، أي: العين المجردة والتلسكوب.
فإذا لم تستطع هذه التقنية العالية رصد هلال رمضان تلك الليلة فكيف يستطيع أحد الادعاء بأنه رآه بالعين المجردة ولدقائق طويلة قبل غروب الشمس، وعلى ارتفاع أقل من درجة بعد غروبها ونسبة إضاءة لا تكاد تُذكر، إضافة إلى سوء الأجواء في سدير وشقراء في ذلك الوقت الحرج؟!
إن مسؤولية التحقق من رؤية الهلال لا تقع على من اعتدنا منهم توهم رؤية المستحيلات، بل تقع ـ في المقام الأول ـ على القضاة الذين يجيزون شهادة هؤلاء.
وقد نبه إلى ذلك الشيخ عبدالله المنيع (صحيفة الرياض، 22 /8 /1431هـ) الذي رجا المحكمة العليا أن تطلب من رؤساء محاكم المناطق في المملكة الاجتماع برئيس وأعضاء المحكمة العليا وأن يكون في هذا الاجتماع بيان وتوضيح لإجراءات التحريات والتحقيق مع المتقدمين إليهم بشهادة الرؤية وذلك من حيث مناقشة الشاهد بالرؤية كيف رآه وما جهة تقوّسه وقرنيه وهل هو أي الهلال شمال مغيب الشمس أو جنوبها، وما زمن مكثه بعد غروب الشمس حتى غاب؟ مع ملاحظة أخذ شهادة كل واحد من الشهود ـ إن كانوا عددا ـ على انفراد، والمقارنة بين شهاداتهم هل هم متفقون في شهاداتهم أو بينهم اختلاف في أداء الشهادة والنظر في أثر ذلك؟ كما أرجو من المحكمة أن يكون لمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية حضور وعلى مستوى علمي فلكي بارز وذلك وقت النظر في الشهادات بعد رفعها إلى المحكمة العليا من المحاكم، فقد يكون لدى مندوب المدينة ما يساعد المحكمة على دقة التحري والتثبت.
ولا تقتصر المشكلة على أن بعض القضاة الذين يتلقون الشهود لا يعرفون شيئا كثيرا عن علم الفلك، بل إن بعضهم يرفضه من حيث المبدأ. ويشهد بذلك ما ذكره المهندس عدنان قاضي في كتابه (الأهلة: نظرة شمولية ودراسات فلكية: 50 عاما لأهلة رمضان وشوال وذي القعدة، ط2، 1431هـ، ص306) من قول أحد المسؤولين في مجلس القضاء الأعلى (الذي كان مكلفا بالأهلة): نحن لا نؤمن بكمبيوتراتكم ونحن لا نؤمن بحساباتكم. نحن لا نؤمن إلا بالشريعة. يضاف إلى ذلك أن هؤلاء القضاة يوثِّقون بشكل مسبق ومطلق أشخاصا معروفين لديهم ويقبلون شهاداتهم حتى إن كانت الرؤية المجردة مستحيلة. ومن شواهد ذلك دفاع أحد القضاة في محكمة جدة ـ في برنامج بثته قناة الجزيرة مساء الثلاثاء قبل الماضي ـ عن هؤلاء الشهود ووصفهم بما يفيد توثيقه لهم في الأحوال كلها.
ويجب القول بأن هذه الثقة المطلقة بهؤلاء المتوهمين كانت السبب في نسبة الخطأ في رؤية الهلال التي بلغت، خلال المدة التي درسها عدنان قاضي، 88% (المرجع نفسه، ص211).
لقد تفاءل الناس بعهد جديد مع المحكمة العليا الموقرة يُحدُّ فيه من وَهْم الذين يشهدون بما لا يتفق مع واقع الهلال. لذا ينبغي عليها ـ لكي يستمر هذا التفاؤل ـ أن تبذل جهدا أكبر للتأكد من معرفة القضاة المعنيِّين بقضايا الهلال العلمية، ومن عدم انحيازهم إلى المواقف التقليدية التي كانت وراء الأخطاء في الماضي.