شغف المبدع قد يتجاوز المعقول إلى غير المعقول أحيانا، مثل ليوناردو دافينشي الذي ذكرته في مقال أمس، إذ لم يكن فنانا فحسب، بل عالما ومهندسا ومعماريا، درس الرياضيات والحركة والماء والطبيعة، ولا تستغربوا أن صاحب الموناليزا أول من وضع تصورا متقنا لاختراعات: الذبابة الحربية، والطائرة المروحية، وبدلة الغطس، مستفيدا من خيال من سبقوه، دون أن يعرف أنها ستتحقق بعده بأربعمائة عام تقريبا.
لكن ما لا يعرفه كثيرون، هو كيف لفنان مرهف أبدع موناليزا يتخصص في التشريح؟! ويتعامل مع الموتى، رغبة منه بأن يكون فنانا حقيقيا! فمما يُذكر، أنه أخذ يتردد على أحد المستشفيات ليلا في ميلانو لسنوات، كي يُشرح الموتى غير مهتم ببشاعة مناظرها وهو يقطعها! فقط كي يعرف تفاصيل الجسد الإنساني ومكوناته في عصر ثائر يصارع الكنيسة بالنهضة العلمية، بل وهناك لغز حير كثيرين، فمما جاء في مذكراته رسومات دقيقة لجنين في رحم أمه بشكله الطبيعي، ما جعل الباحثين يتساءلون: كيف عرف دافينشي تكوين الجنين بهذه الدقة في عصره؟ هل شرّح امرأة ميتة حاملا وجنينها أو امرأة حية وقتل جنينها لأجل العلم والاستكشاف، ليرسم بدقة؟
إنه من أوائل من وضع علم التشريح الفني، وأخرج كتابا فيه! ويرى كما جاء في مذكراته، أن الفنان لا يستطيع أن يُصور ويرسم حركة أي طرف من أطراف الجسم إلا إذا كان على علم بتشريح الأوتار والأعصاب وعضلاتها! هل تتخيلون ذلك؟ فعل تشمئز منه النفس يتمثل في نبش جثث الموتى، ليصوغ منه جمالا في لوحة كـموناليزا التي حيرت بعينيها وابتسامتها علماء العالم! أو ربما لأنه كما يقول: الطبيعة لطفت بنا، لأنها جعلتنا نعثر على المعرفة حيثما أدرنا وجوهنا في هذا العالم، وحتما الجثث من هذه الطبيعة! وأيا كان الأمر، فلولا تشريح الموتى وهو في نظر الدين عمل غير أخلاقي، لما تطور الطبّ ليكون العلاج كعمل أخلاقي! لهذا فإن الموتى متفضلون علينا حتما بالدواء في الطب وبالجمال في فن دافينشي وكذلك زميله مايكل أنجلو.
لكني أتساءل: هل كان يتوقع يوما دافينشي أن يكون جثة أو ما تبقى منه محل شغف وفضول ونبش آخرين، كي يحصلوا على المعرفة كما فعل هو مع الموتى؟ لقد قرأت مرة خبرا عن علماء إيطاليين يسعون إلى فتح قبره ودراسة رفاته، ليعرفوا أكثر عن صاحب الموناليزا، التي لم يكن يفارقها أينما ذهب، وكأنها عشيقته، رغم أن بعض الدراسات أثبتت مطابقتها تماما لوجهه الذي رسمه لنفسه!! كما طابق وجهه على كفن تورينو الذي ظلّ المسيحيون يعتقدون أنه كفن المسيح لأربعمائة عام إلى أن اكتشف باحثون أن الوجه الذي تبدو معالمه في الكفن مطابق لوجه دافينشي الذي رسمه لنفسه، فهل كان يمزح حين رسم وجهه بطريقة مخفية على الكفن؟ أم كان يخفي سرا، كما حاول إخبارنا الروائي دان براون صاحب شفرة دا فينشي؟.
وتبقى الأسئلة مشرعة أبوابها في البحث العلمي الحقيقي، طبعا عند الغرب وليس عندنا!