روسيا لا تفهم لماذا يهتم العالم بما يجري في سورية، وتبدو في تصريحات مسؤوليها حيرة حقيقية حيال ذلك؛ ففي حسابات الأرباح والخسائر الروسية، تُعتبر السياسة العامل الرئيس، يليها الاقتصاد، أما الاعتبارات الإنسانية فهي ثانوية

كان فشل قمة العشرين التي اختتمت أعمالها في روسيا يوم الجمعة 6 سبتمبر مدوياً. ويُعزى ذلك بالدرجة الأولى إلى عدم قدرة الدول الكبرى على التوصل إلى الاتفاق بشأن سورية، إذ أفشلت روسيا، الدولة المضيفة، جميع المحاولات لتبني اقتراح الولايات المتحدة اتخاذ إجراءات عقابية بحق النظام السوري. وشارك في القمة التي استضافتها روسيا هذا العام في مدينة (سانت بيترسبرغ) قادة وممثلون لنحو عشرين دولة، لا يجمعها الكثير سياسياً أو اقتصادياً.
ومع أن قمم العشرين تهدف عادة إلى مناقشة القضايا السياسية والتجارية، إلا أن موضع سورية طغى على أعمال القمة، بعد الهجوم الكيماوي الذي شنه النظام في 21 أغسطس الماضي، وذهب ضحيته المئات من الأطفال والنساء والمدنيين العزل، ووعدت الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات رادعة. فالمؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس باراك أوباما في ختام القمة كان مخصصاً بالكامل للموضوع السوري، الذي سيطر في نحو مشابه على المؤتمرات الصحفية للقادة الآخرين.
وفي الشأن الاقتصادي، وهو الهدف الأصلي للقمة، خلا البيان المشترك الذي صدر عقب القمة من أي خطوات عملية ملموسة، مقارنة بالقمم السابقة. وأظهر ذلك عدم قدرة روسيا على إدارة مثل هذا الاجتماع، فهدف المضيف عادة هو التقريب بين وجهات النظر للخروج بتوصيات يتفق عليها الجميع، وليس تبني وجهات نظر متطرفة تشق الصف.
وظهرت قلة الحنكة الدبلوماسية كذلك حين وصف الرئيس بوتين وزير الخارجية الأميركي بأنه كذاب، وحين هاجم المتحدث الرسمي الروسي ديميتري بسكوف رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، بسبب مطالبته بتحرك دولي لإنقاذ الشعب السوري، واصفاً بريطانيا بأنها جزيرة صغيرة لا يأبه أحد لها.
ونزولاً عند إصرار روسيا خلا بيان القمة، الذي تجاوز طوله (27) صفحة، من أي ذكر لسورية، كما خلا من أي قرارات أو نتائج ملموسة في الشأن الاقتصادي. فعلى الرغم من الركود الاقتصادي في الدول الصناعية، واحتمالات أن يمتد ذلك إلى بقية دول العالم، لم يحتو البيان على مقترحات ملموسة لإخراج الاقتصاد العالمي من الركود. وربما كان الشيء الوحيد الملموس في البيان الطويل هو الاتفاق على بذل الجهود لمكافحة التهرب الضريبي من قبل الشركات المتعددة الجنسية، إذ وصف الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند هذا الاتفاق بأنه أهم نتيجة توصلت إليها القمة. وحسبما ورد في البيان، فقد اتفقت الدول العشرون على أن يتم بنهاية عام 2015 تبادل المعلومات الخاصة بتحصيل الضرائب واتخاذ خطوات إضافية لتنسيق السياسات المتعلقة بالموضوع. وربما كان ذلك بالفعل مهماً لمحصلي الضرائب في الدول الكبرى، ولكنه ليس ذا أهمية تُذكر لبقية العالم.
والسؤال الذي يحير المراقبين هو لماذا خاطرت روسيا بفشل القمة التي تستضيفها؟ لماذا كانت القيادة الروسية مستميتة في الدفاع عن نظام الأسد؟
وفي المقابل فإن روسيا لا تفهم لماذا يهتم العالم بما يجري في سورية، وتبدو في تصريحات المسؤولين الروس حيرة حقيقية حيال ذلك؛ ففي حسابات الأرباح والخسائر الروسية، تُعتبر السياسة العامل الرئيس ثم الاقتصاد، أما الاعتبارات الإنسانية فهي ثانوية، وهي تتقبل أقصى درجات العنف، لتحقيق الأهداف السياسية، بشكل قد لا نراه في دول أخرى. وربما لن تجد في تصرفات النظام السوري حتى الآن ما لم يسبق أن فعلته روسيا نفسها في التعامل مع خصومها.
ولنأخذ الشيشان كمثال. فعلى مدى 500 عام، أصرّت روسيا على إبقاء الشيشان تحت سيطرتها، وارتكبت خلال تلك الفترة فظائع لا تُصدّق لتحقيق ذلك الهدف السياسي، واستمر ذلك منذ فترة روسيا القيصرية وحتى الآن. فخلال حكم القياصرة، تم ترحيل نحو 80% من سكان الشيشان قسرياً إلى تركيا وغيرها من الدول الإسلامية.
وخلال فترة الاتحاد السوفييتي، في عهد ستالين، تم ترحيل معظم ما تبقى من سكان الشيشان إلى مناطق أخرى في الاتحاد السوفييتي، وخلال عمليات الترحيل التي تمت بمنتهى القسوة، قضى نحو 60% من المرحّلين.
وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي واستقلال كثير من الجمهوريات السوفييتية، أصرّت روسيا على إبقاء الشيشان تحت حكمها المباشر، على الرغم من أن الشيشان المسلمين يشكلون أكثر من 95% من سكان المنطقة، ولا يوجد بها سوى نحو 2% من الروس. وتستخدم روسيا القوة المُفرطة في إخضاع الشيشان لسيطرتها، وزجت بجيشها المتفوق عدداً وعدة لتحقيق ذلك، مثل ما يحدث في سورية منذ 2011. وحسب تصريحات لمسؤول شيشاني موالٍ لروسيا، قُتل في هذه الحرب نحو 160000 غالبيتهم العُظمى من المدنيين. ودكّت آلة الحرب الروسية مدن الشيشان وقراها وحولت الكثير منها إلى خرائب. وبعبارات أخرى، مثلما يحدث في سورية.
وماذا عن استخدام الأسلحة الكيماوية؟ هل استخدمت روسيا هذه الأسلحة المحرمة دولياً، مثلما يستخدمها النظام السوري؟
لعلك تذكر المذبحة التي وقعت عام 2002 في مسرح مشهور في موسكو، حين استخدمت القوات الروسية الغازات السامة. ففي 23 أكتوبر 2002، استولى عدد من الإرهابيين المؤيدين لقضية (الشيشان) على مسرح (دوبروفكا) في العاصمة الروسية، وطالبوا بانسحاب القوات الروسية من الشيشان. وحاصرت القوات الروسية المهاجمين والرهائن لمدة يومين ونصف، ثم ضخت كمية من الغازات السامة في أنابيب التهوية في المسرح، ثم شنت هجوماً مسلحاً عليه.
وخلال الهجوم، قُتل جميع الإرهابيين، بالإضافة إلى 130 من الرهائن، قضوا بسبب استنشاقهم الغاز السام، باستنثاء اثنين قُتلا بالرصاص. واشتكى الأطباء الروس وقتها من عدم قدرتهم على معالجة المصابين بسبب عدم الإفصاح عن اسم الغاز المستخدم في الهجوم على المسرح.
بل إن استخدام المليشيات في سورية له ما يقابله في روسيا، التي استخدمت الميليشيات خلال تاريخها لبث الرعب في صفوف خصومها، في الفترة القيصرية، ثم في عهد الاتحاد السوفييتي، حيث كانت قوات الشرطة نفسها تُسمى رسمياً بالميليشيا، واستمر ذلك بعد انهيار النظام السوفييتي، ولم يتغير اسمها إلى بوليس إلا في مارس 2011، أي مع بداية الأزمة السورية. ومع ذلك، ما زالت هناك ميليشيات غير نظامية تعمل في روسيا، ومن تلك المليشيات ما يُسمّى بـدرع موسكو، وهي مجموعة من الشباب الذين يهاجمون المهاجرين والعمال غير الروس.
ولذلك يرى البعض في هذا التاريخ والعقيدة السياسية والأمنية إيضاحاً، جُزئياً على الأقل، لعدم قدرة النظام السياسي الروسي على فهم الوضع في سورية، أو إدانة الأساليب غير الإنسانية التي يستخدمها النظام السوري في حق المدنيين.