التعامل مع العنف المتوقع يقتضي ـ فضلا عن المواجهة الأمنية ـ تبني منظومة سياسات رشيدة تُعلي دولة القانون، وتُفكّك مؤسسة الفساد المتجذرة، وحينها ستكون الجمهورية الجديدة نموذجا يحترمه الشعب

لم تُشكّل محاولة اغتيال وزير الداخلية المصري أي مفاجآت، بل كانت متوقعة كما حدث لكل وزراء الداخلية منذ حركة الضباط الأحرار عام 1952 حتى الآن، إذ تعرضوا لمحاولات اغتيال بيد منظمات الإسلام السياسي على اختلاف مسمياتها، بدءا بالإخوان الذين تورط نظامهم الخاص في اغتيال اللواء سليم زكي حكمدار القاهرة ما دفع رئيس الوزراء ووزير الداخلية محمود فهمي النقراشي حينها، إلى إصدار أمر عسكري بحل جماعة الإخوان بتاريخ 8 ديسمبر 1948.
بعد ثلاثة أسابيع من صدور الأمر بحلّ الجماعة وتحديدا في 28 ديسمبر 1948، اغتال شخص ينتمي للنظام الخاص لجماعة الإخوان النقراشي، وهو ما أثار غضب الملك فاروق الذي كانت تربطه صلة وثيقة به، فأصدر أمرا لجهاز أمني يتبع القصر بالرد على الإخوان بتصفية مؤسسها حسن البنا، في عملية نوعية نُفذت باحتراف فلم تترك دليلا، وما زالت قضية مصرع البنا مقيدة ضد مجهول لعدم توافر أدلة رغم معرفة هوية الفاعل.
إذن؛ فـالإخوان منذ نشأتهم لهم باع في العمل السّري والعنف، رغم عدولهم لاحقا عن هذا المنهج، كما زعموا، لكن ظل لديها جهاز سرّي تربى على أدبيات سيد قطب، عقب محنة الجماعة التي بدأت إثر محاولة اغتيال عبدالناصر 1954 ثم بلغ الصدام مداه في ستينات القرن الماضي حين نكّل النظام الناصري بالجماعة وأعدم سيد قطب الذي يُنظر إليه باعتباره الأب الروحي لقادة الإخوان الحاليين وفي صدارتهم المرشد محمد بديع، والقائم بأعماله الهارب محمود عزت.
هذا التاريخ معروف، لكني رأيت ضرورة التذكير به، لأن أجيالا جديدة تجهل تاريخ الجماعة مع العنف، ولأنه يقودنا أيضا للمحنة الراهنة للجماعة عقب الإطاحة بحكمها ورئيسها المعزول، واعتقال معظم قادتها، ولعل الخطير هنا تلك الشريحة التي تُقدّر بالآلاف من شباب الجماعة الذين ربتّهم على العقيدة القطبية، التي ترى صراع الجماعة وخصومها من الشعب والسلطة بما أسماه سيد قطب في كتابه الشهير (معالم في الطريق) مرحلة المُفاصلة الشعورية، التي تعني ببساطة اضطلاع مجموعة يسميها قطب الطليعة المؤمنة لتخوض حربا بين الحق والباطل، ولعل هذه المجموعات التي أعدتها قيادة الجماعة، كانت تأهبا للحظة الراهنة.
لهذا قرر قادة الإخوان من الصقور القطبيين تشكيل مجموعات تولت عناصر من حركة حماس تدريبها على مهارات حرب الشوارع التي يتقنها مقاتلو كتائب القسّام الذراع العسكرية لحركة حماس أثناء مواجهتهم مع إسرائيل قبل أن توقع اتفاق الهدنة برعاية مرسي الذي حوّل حماس من حركة مقاومة، لمجرد شرطي لحماية أمن إسرائيل وفق تقديرات محللين.
وبقراءة خريطة حركات الإسلام السياسي في مصر حاليا، سنرصد مزيجا من عناصر شباب الإخوان التي تشبعت بالمنهج القُطبي وهو القاسم المشترك مع السلفية الجهادية، وهي إحدى تجليات القاعدة، وظهرت علانية عقب ثورة 25 يناير واتخذت مسميات مختلفة لكنها تتبنى ذات المفاهيم مثل: التيار الإسلامي العام والجبهة السلفية وحركة حازمون وكلها تنويعات على لحن أساسي هو القُطبية الجديدة التي تتبنى مفاهيم الحاكمية وجاهلية المجتمع وغيرها من الأدبيات القطبية.
ولا نبالغ حين نتوقع أن الموجة الجديدة من المواجهة مع تنظيمات الإسلام السياسي ستكون الأكثر شراسة، بالنظر للتطورات التي شهدتها مصر، والضربة الموجعة التي تلقتها تلك الكيانات، وفشل تجربتهم السياسية، كل هذا من شأنه أن يجمع خليطا لأكثر العناصر تطرفا، تتمترس بمنظومة فقهية بالغة التعصب تمتزج بشعور بالاضطهاد من منظومة الحكم الحالية وظهيرها الشعبي والسياسي والإعلامي التي تعتبرها تلك التوليفة الجهادية الجديدة كفارا محاربين، بينما يرون أنفسهم الطائفة المؤمنة الربانية التي تعتقد أنها مكلفة بقتالهم.
ولعل مكمن الخطورة يتمثل في تنوع مشارب هذه المجموعات الجديدة، فهي تتألف من مشارب تنظيمية وحركية وفكرية مختلفة، لكن جمعتها فكرة واحدة هي شعورهم بالمرارة والهزيمة، وبالتالي أصبحت شعارات السلمية محض لغو يمارسه الجناح السياسي لهذه الكيانات الجهادية الجديدة التي بدأت العنف بالفعل في وقائع شتى، باعتبار أن ما يجري بمصر ليس صراعا سياسيا، بل حرب مقدسة بين الحق والباطل، وأن الإطاحة بمرسي ونظام حكم الإخوان فرض عليهم وجوب قتال ما يصفونه بالسلطة العلمانية التي تحكم مصر وتعتبرها كفرا صريحا، وبالتالي فإن المواجهة المسلحة باتت حتمية برأيهم.
وبالتوازي مع مواصلة مؤيدي الإخوان استمرار التظاهرات، فهناك كيانات جهادية تبلورت بالفعل تحت الأرض وأخرى قيد التشكل في رحم الغيب وهو ما يُنذر باتجاه هذه الكيانات ـ ومعظمها تتألف من شباب متشنج ـ لجأت بالفعل للعنف، وستدفع لتصعيد عملياتها يوما تلو الآخر في موجة جديدة، ربما كانت الأكثر خطورة في تاريخ المواجهات مع منظمات الإسلام السياسي، لأنها تمتلك أدوات لم تتوفر للتنظيمات القديمة وامتزجت خبراتها الحركية في بوتقة واحدة.
وأخيرا؛ في تقديري أن التعامل مع هذا الخطر المتوقع يقتضي ـ فضلا عن المواجهة الأمنية ـ تبني منظومة سياسات رشيدة تُعلي دولة القانون، وتُفكّك مؤسسة الفساد المُتجذرة، وحينها ستكون الجمهورية الجديدة نموذجا يحترمه الشعب، ويتصدى بقوة المنطق، وربما بمنطق القوة، لو اقتضى الأمر، للتصدي لهذا الجيل المأزوم المتعصب، بعيدا عن لغة الوعظ المستهلكة للمؤسسة الدينية الرسمية التي يمثلها الأزهر، لكن عبر مسار سياسي رشيد، سيكفل محاصرة الانزلاق لدائرة العنف.