الصدام بين الجيش المصري و'حماس' بدأ بالفعل، لكن لا أحد بوسعه التنبؤ بالمدى الذي ربما يمتد إليه، ولا يتمناه أحد، لكن ما تشهده الساحة من تطورات خطيرة، وضع الجميع أمام خيارات أحلاها شديد المرارة

أذكر أن السيدة والدتي كانت تتباهى على عماتي بأن جهازها اشتراه أبي - يرحمه الله - من غزة.. كان هذا خلال ستينات القرن الماضي حينما كانت غزة تشبه دبي وهونج كونج كمنطقة حُرّة لا تفرض ضرائب، لهذا تتدفق عليها البضائع من الغرب والشرق، وزرتها مرة حينما كنت صبيا مع أحد أقاربي كان ضابطا بالجيش يعمل بغزة التي كانت حينئذ مدينة استثنائية، تستلهم حيوية القاهرة ورومانسية الإسكندرية، حتى أسماء المحال التجارية تشبه مثيلاتها المصرية، ولن أنسى زيارتي لسينما الأندلس التي كانت تعرض الأفلام قبل عرضها في مصر.
الآن تبدو غزة مدينة كئيبة، تخرج من أزمة لتنزلق لأخرى، تحكمها حركة حماس بالحديد والنار، ولا يتوقف قادة حكومتها المُقالة عن اللغو الفارغ حول المقاومة، بينما تدنى سقف أمنياتها لحد إبرام اتفاق هدنة برعاية الرئيس المعزول محمد مرسي، يثقل كاهل حماس بحزمة التزامات جعلتها شرطيا لحماية أمن إسرائيل.
ولا يتسع المقام للخوض في جرائم القتل الجماعية التي طالت آلاف الفلسطينيين المعارضين لحماس، سواء من أعضاء فتح أو غيرها من المنظمات التي حملت لواء المقاومة ضد إسرائيل قبل ظهور الحركة في ملابسات ما زال يكتنفها الغموض، لكني سأشير فقط لذلك العرض العسكري الذي نفذته كتائب القسام في رفح مؤخرا لمساندة الإخوان بعد إطاحتهم، والذي فسرته المؤسسة العسكرية المصرية باعتباره سلوكا صبيانيا مستفزا، وربطت ذلك بخصوصية العلاقة بين حماس والإخوان من الجذور والنشأة، وصولا للأنشطة الحركية والدعم اللوجيستي الذي قدمته الحركة للجماعة الأم، سواء في سيناء وخلال المواجهات المسلحة المتواصلة في مصر بين الجماعة وقوات الأمن والجيش.
فيما مضى كانت التسريبات المتعلقة بعلاقة مصر وحماس تُنسب لمصادر مجهولة، لكنها الآن أصبحت اتهامات علنية ورسمية للحركة، بل وذهبت لأبعد من ذلك باتخاذ الجيش المصري إجراءات غير مسبوقة، بإقامة منطقة عازلة بموازاة الحدود بعرض 500 متر وطول 10 كيلومترات، بدأت بهدم منازل بمنطقة الصرصورية بالقرب من معبر رفح، ردا على ما اعتبره الجيش انتهاكات من قبل حماس للسيادة المصرية، واستغلالها الأنفاق لتهريب الأسلحة وقادة الإخوان وأبرزهم محمود عزت، القائم بأعمال المرشد العام بعد اعتقال المرشد محمد بديع، وطالبت المخابرات الحربية المصرية حماس بتسليمه، لكنها أنكرت الأمر، فسلمتها وثائق وتسجيلات تؤكد وجوده بالقطاع، فلم ترد الحركة مكتفية بالنفي.
بالطبع لن يقف الجيش المصري عاجزا أمام ما أكدته معلومات أمنية حول ضلوع حماس في الاعتداءات المتكررة بسيناء، وترى دوائر عسكرية أن الأمن لن يستتب بسيناء ما دامت حماس تحكم غزة، وألمحت لتقديرات صنّاع القرار بشأن مدى إمكانية دعم قوات السلطة الفلسطينية، كأحد الخيارات للإطاحة بحكم حماس، ردا على دورها الداعم بوقائع موثقة لجماعة الإخوان في نشر الفوضى بشتى أنحاء مصر.
بالطبع فإن ضربة من هذا النوع ـ حال حدوثها ـ لن يتورط فيها الجيش المصري، بل ستطّلع بها السلطة الفلسطينية لاستعادة غزة وتوحيد الصف، بحيث تكون هناك سلطة واحدة معترف بها دوليا لتستأنف المفاوضات مع إسرائيل بدعم مصري وعربي، وغطاء دولي.
وفي هذا السياق، فقد كشفت معلومات أدلى بها العميد عاطف الحسيني، الضابط بجهاز الأمن في شهادته أمام المحكمة عن وثيقة ضبطها مع القيادي خيرت الشاطر، بعنوان اجتماع مجلس الشورى وحماس، وتتناول العلاقات التنظيمية بين الإخوان وحماس‏، وما خلصت إليه من قرارات بتشكيل قوة عسكرية من عناصر جهادية تشرف عليها الهيئة العليا للتنظيم الدولي للإخوان.
وتعزز هذه الشهادة معلومات بشأن قيام الإخوان بشنّ هجمات ممنهجة لعدة منشآت حكومية، ومخططات لإشعال مواجهات تستهدف دفع مصر لحرب أهلية لتكون ذريعة للتدخل الأجنبي، وأشارت لشخص يدعى فهد زهير هبّاش، وهو أحد قادة كتائب القسام الذي شارك باشتباكات رابعة العدوية وقاد المواجهات المسلحة ضد القوات التي تولت فضّ الاعتصام.
وأخيرا، فإن الصدام بين الجيش المصري وحماس بدأ بالفعل، لكن لا أحد بوسعه التنبؤ بالمدى الذي ربما يمتد إليه، ولا يتمناه أحد، لكن ما تشهده الساحة من تطورات خطيرة، وضع الجميع أمام خيارات أحلاها شديد المرارة.