تفوّق الأبناء في الفضاء الإلكتروني ليس سوى ظاهرة واحدة من مجموع ظواهر متلازمة تشير إلى أن الجيل الجديد أكثر ذكاءً من الجيل الذي يسبقه، الأمر الذي يؤكد استمرار صحة فرضيّة العالم النيوزلاندي 'جميس فلين'
حاول عصام فك شفرة اللعبة الجديدة التي اشتراها لابنه ذي السبع سنوات لكنه لم يستطع، اجتهد في قراءة كتيب التعليمات، لكنه كان مختصراً جداً، كما لو كان دون فائدة، وبعد 30 دقيقة من المحاولات أعلن الأب: حان وقت النوم، لم يرضخ ابنه الصغير لهذا الأمر الذي قتل فرحة اللعبة؛ إلا بعد نظرة حادة من والده الشاب.
صباح اليوم التالي أفاق عصام على صوت ابنه وابنته الصغرى، وكانت المفاجأة أن الطفلين الصغيرين استطاعا ومن المحاولة الأولى تشغيل اللعبة بكل سهولة! هالت القصة والدهما الذي لم يتجاوز عامه الثالث والثلاثين، والذي يعتبر نفسه مدمن الألعاب الإلكترونية وخبيراً في الخيال العلمي.. لكن يبدو أن مقولة إن الأبناء يفوقون ذكاء والديهم أضحت حقيقة نشاهدها كل يوم في منازلنا.
وفي الواقع أن تفوّق الأبناء في الفضاء الإلكتروني ليس سوى ظاهرة واحدة من مجموع ظواهر متلازمة تشير إلى أن الجيل الجديد أكثر ذكاءً من الجيل الذي يسبقه، الأمر الذي يؤكد استمرار صحة فرضيّة العالم النيوزلاندي جميس فلين، الذي اكتشف قبل 30 عاماً ما أطلق عليه تأثير فلين Flynn Effect، والتي ملخصها أن معدل متوسط اختبارات الذكاء ما انفك يتزايد منذ ما يزيد عن 100 عام، أي منذ ابتكارها، ورغم أن معدل الزيادة لا يتجاوز ثلث النقطة لكل سنة، إلا أنك إذا احتسبته على مرّ عقود متتالية سوف تجده ارتفع بنسبة كبيرة، لذا فإن الشاهد هنا أن الأبناء بشكل عام أذكى من آبائهم، وأن الآباء أذكى من آبائهم، وهكذا دواليك.
بالطبع فإن اختبار نسبة الذكاء IQ كما هو معروف يحتوي على اختبارات متنوعة، تختلف باختلاف هدف الاختبار، لكنها جميعاً تشترك في قياس مجموعة من الكفاءات والمهارات، مثل: المفردات، الحساب، التركيز، والإدراك البصري، الاستدلال، المنطق، وغيرها. وتعتمد الفكرة الأساسية على قياس معدل ذكاء الفرد الواحد مقارنة إلى مستوى معدل مجموعة من الأفراد، حيث لوحظ من البداية أن منحى النتائج العامة يتخذ شكل الجرس، حيث تظهر نتائج قلة من الأفراد في الطرفين، وهم الحاصلون على معدلات متدنية جداً، أو مرتفعة جداً، بينما تقع نتائج الغالبية العظمى في الوسط، وهو ما يمثل معدل الذكاء المتوسط، حيث تتراوح نسبة من يحصل على درجات تتراوح ما بين 70-130 أكثر من 95% من مجمل المشاركين في الاختبار. لكن فلين لاحظ باطلاعه على الكثير من الدراسات والنتائج أن البعض قد حصل على نتيجة متوسطة في اختبار حديث، بينما كان حاصلاً على درجة مرتفعة في اختبار سابق، مما قاده إلى فرضيّة أن متوسط الذكاء في الجيل السابق أقل من الجيل الحالي، وباطلاعه على عدد من الدراسات المجمّعة؛ لاحظ ارتفاع المتوسط، حيث وصل الفارق إلى 14 نقطة، فقط ما بين العامين 1932 و1987، وإذا قمنا باستقراء النتيجة على مدى 100 عام فإننا نحصل على 30 نقطة، وهي بالمناسبة تعكس الفرق بين الشخص متوسط الذكاء والمتخلف عقلياً!
بالطبع هذا الارتفاع كان متوقعاً، نتيجة تحسن الظروف المعيشية لأغلب الأفراد، وخصوصاً في الجانبين التعليمي والصحي، لكن التساؤل الأهم هنا كيف يمكن تفسير هذا الارتفاع بطريقة علمية تساعد على استقراء المستقبل؟ وهل يعتبر هذا الارتفاع ذكاءً بحد ذاته، أم أن تغيّر بيئة المجتمع قد فرض مستوى ذكاء جديدا على الأشخاص، أم أن ارتفاع نسبة الالتحاق بالتعليم العام قد يكون هو السبب، وهو العامل الذي أدى إلى وجود عدد كبير من الآباء والأمهات ذوي التعليم المرتفع نسبياً، وأسهم ولو بشكل غير مباشر على مستوى ذكاء أبنائهم، دون إغفال أن تقلص عدد أفراد العائلة يزيد من تركيز الوالدين على أطفالهم. هذه التفسيرات قادت العلماء إلى محاولة دراسة الذكاء دون ربطه بالمفردات أو المعلومات الرياضية، وبالتالي الخروج من تأثير المدرسة والتعليم والعائلة، بواسطة ما يطلق عليه اختبار مصفوفات رافن Raven وهو اختبار يعتمد على ملاحظة مجموعة من الأشكال الهندسية ثم استكمالها، والجميل في هذا الاختبار أنه يمكن تطبيقه على أكثر من شعب وأكثر من جيل دون الخوف من تأثير تغيّر الأسئلة أو صياغتها، لكن المفاجأة التي خرج بها فلين هي أن نتائجه السابقة كانت صحيحة تماماً، فبعد دراسة نتائج 14 بلداً حول العالم، وجد أن هناك ارتفاعاً ملحوظاً في نسبة الذكاء، كما هي الحال في اختبار الذكاء التقليدي!
غير أن العالم فلين لم يكتف بذلك، فعاد ودرس فقط جزئي المفردات والعلميات الحسابية في اختبارات الذكاء الكلاسكية، حينها وجد أن الزيادة المطردة في نسبة الذكاء لم تكن في هذين الجزءين، بل كانت في الأجزاء المنطقية الأخرى، وبالتالي يظهر هنا أن التعليم ليس هو العامل الأساسي المؤثر في زيادة النسبة! مما جعله يقترب من آراء بعض الباحثين الذين يجزمون بأن تعاظم استخدامنا للأجهزة الحديثة هو سبب ارتفاع معدل الذكاء، وخصوصاً لدى الأطفال واليافعين، ذلك أن التعامل اليومي مع الأجهزة الذكية يفرض نمطاً جديداً من الذكاء المنطقي، والذي يتحول مع مرور الوقت إلى ممارسة روتينية لأغلب الأشخاص، وبالتالي يجعل الأفراد أكثر قدرة على فهم وتحليل الأشكال الهندسية في مصفوفات رافن.
السؤال الأهم هنا هل سوف تستمر نسبة الزيادة في معدل الذكاء أم سوف تتوقف عند حدٍ معين؟ البعض يقول بتبلد الذكاء البشري مع تعاظم دور الحواسب الآلية، أم أننا بحاجة لإعادة تعريف الذكاء من جديد؟ خصوصاً ونحن نزداد انغماساً وتداخلا مع التقنية على كافة المستويات؟ أسئلة كثيرة وإجابات مفتوحة، لكن الأمر الثابت الوحيد هنا هو أن الإنسان لا يزال أمامه الكثير ليكتشف المزيد عن نفسه.