في ملتقى ثقافي أصغيت إلى ذلك المثقف المنفتح على مفردات الاختلاف، والعاشق لاجتراح الدلالات وإثارة مفاعيل الحوار المثمر

في ملتقى ثقافي أصغيت إلى ذلك المثقف المنفتح على مفردات الاختلاف، والعاشق لاجتراح الدلالات وإثارة مفاعيل الحوار المثمر، من خلال ميله إلى التأصيل ونزوعه إلى التعايش مع ثقافة الموروث، والتماهي معه والمقاربة مع إشراقاته، حين طرح سؤاله حول التطابق والتوافق أو الاختلاف بين البلاغة والفصاحة ؛ حيث اجتهد الكثير من الحضور في تفسير المغايرة بينهما، وطالت المداولة واستعراض الذخيرة الفكرية المخزونة، وخاصة من الأكاديميين الذين اعتمدوا على الشروح المطولة، والتفريعات والتشعيب والتوسع، ولكني وجدت فخر الدين الرازي يجيب عن هذا السؤال قبل 600 عام بقوله: أكثر البلغاء لا يكادون يفرقون بين البلاغة والفصاحة، بل يستعملونهما استعمال الشيئين المترادفين على معنى واحد، ويزعم بعضهم أن البلاغة في المعاني والفصاحة في الألفاظ، ويستدل بقولهم معنى بليغ ولفظ فصيح، ولذا لا نرى قائلا يقول: هذا معنى فصيح، فدل على أن الفصاحة من صفات الألفاظ دون المعاني، أما البلاغة كما ساقها الأبشيهي ونقلها عن بعض العارفين فهي بلوغ المكان إذا أشرفت عليه وإن لم تدخله قال الله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) وقال اليوناني: البلاغة وضوح الدلالة، وحسن الإشارة، وقال الكندي: يجب للبليغ أن يكون قليل اللفظ، كثير المعاني، وقيل إن معاوية سأل عمرو بن العاص رضي الله عنهما: من أبلغ الناس؟ فقال: أقلهم لفظا، وأسهلهم معنى، وأحسنهم بديهة. واستشهد الأبشيهي بعدد من النماذج التي تجمع بين الفصاحة والبلاغة، ومنها ما قاله الحجاج لعبدالملك بن مروان وهو يسأله عن كيفية حكمه للعراق فقال: العقوبة والعفو والاقتدار، والبسط والازورار، والإدناء والإبعاد، والجفاء والبر، والتأهب والحزم، وخوض غمرات الحروب بجنان غير هيوب، فمن جادلني قطعته، ومن نازعني قصمته، ومن خالفني نزعته، ومن دنا أكرمته، ومن طلب الأمان أعطيته، ومن سار إلى الطاعة بجلته. وروي أن ليلى الأخيلية مدحت الحجاج فقال: يا غلام اذهب إلى فلان فقل له يقطع لسانها، فطلب الغلام حجاماً فقالت: ثكلتك أمك إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة، فلولا تبصرها بأنحاء الكلام ومذاهب العرب والتوسعة في اللفظ ومعاني الخطاب، لتم عليها جهل هذا الرجل، وقال الثعالبي: البليغ من يخيط الألفاظ على قدر المعاني، والكلام البليغ ما كان لفظه فحلا ومعناه بكرا، وقال الرازي: البلاغة بلوغ الرجل بعبارته كنه ما في قلبه، مع الاحتراز عن الإيجاز المخل والتطويل الممل.