تحتضن الجزيرة العربية الكثير من معالم التراث الإنساني، يجب تسليط الضوء عليها، وحمايتها من أيدي العبث والإهمال والاستغلال التجاري، لأن معرفة الشباب بهذا التراث تشكل عمقاً لا يُستهان به لانتمائهم الوطني والثقافي

في بداية هذا الشهر أضافت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة UNESCO عدة معالم ثقافية وطبيعية جديدة إلى قائمة التراث الإنساني World Heritage، منها حيّ الطريف بالدرعية في المملكة العربية السعودية. وبذلك أصبح عدد المعالم التي تحظى بهذا اللقب 911 معلماً في جميع أنحاء العالم. وكانت المنظمة قد أضافت منذ عامين مدائن صالح إلى هذه القائمة.
وتصنف اليونيسكو هذه المعالم بأنها إما معالم ثقافية، أو طبيعية، أو مزيج من الاثنين، وهو ما يسمى بالفضاء الثقافي cultural landscape. وتعتمد المنظمة عدة معايير ثقافية وطبيعية في إدخال أي معلم في هذه القائمة، أهمها أن يكون للمكان قيمة فريدة، أو على الأقل استثنائية، للتقاليد الثقافية لإحدى الحضارات القائمة أو السابقة، وأن يكون له علاقة ملموسة بالأحداث والتقاليد القائمة والأفكار والمعتقدات لإحدى الحضارات أو الثقافات. وتأخذ بعين الاعتبار جهود الجهات المعنية في حماية وإدارة تلك المعالم ومدى حفاظها على طبيعة وأصالة المعلم.
ولا أخفي القارئ سعادتي الشخصية بالقرار الذي اتخذته المنظمة بضم الطريف لقائمة التراث الإنساني، ليس فقط لأنني أعرف هذا الحي معرفة عاطفية، إذ ولدتُ في الدرعية في ظل الطريف، وعشتُ سنوات الطفولة بين حواري ومزارع الدرعية القديمة، وخرائب غصيبة، وشوارع الطريف المهجورة. ولكن الأهم من ذلك أن إضافة الطريف إلى قائمة التراث الإنساني إقرار بأهمية هذا الحي في تاريخ وثقافة المنطقة من جهة، وتقدير للجهود الكبيرة التي بذلتها هيئة السياحة والآثار للمحافظة عليه. فالدرعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت مركزاً مهماً للحركة الإصلاحية العربية والإسلامية، وتعبيراً عن ثقافة أصيلة في المنطقة اعتُبرت آنذاك تحدياً للقوى المسيطرة وقتها (الدولة العثمانية وحكومة محمد علي في مصر)، مما دفع بها إلى السعي إلى القضاء عليها بمحاولة تدمير الطريف في بدايات القرن التاسع عشر، مما جعل الطريف رمزاً للأصالة الثقافية من جهة، ورمزاً للصمود والإصرار، ثم الانتصار في وجه هجوم غير متكافئ.
ويُعتبر الطراز المعماري للطريف أحد أجمل الآثار الباقية والمتكاملة لأسلوب البناء في المنطقة، ولا شك في أن أصالة هذا الطراز كانت من ضمن المعايير التي ضمنت موافقة اليونيسكو على ضمه إلى قائمة التراث العالمي. وأعترف بأن هذا هو ما كان يجذبنا عندما كنا صغاراً إلى هذه المنطقة، قبل أن نعي أهميتها التاريخية. فالمسافة بين حارات الدرعية في الوادي وبين الطريف لم تكن بعيدة، ولكن الفرق في الطراز المعماري كان واضحاً، على الرغم من تدمير جزء كبير من الحي، ثم إهماله على مدى السنين.
ويذكّرنا ضم الطريف، ومن قبله مدائن صالح، إلى قائمة التراث الإنساني بأن المملكة العربية السعودية، والجزيرة العربية بأسرها، تحتضن الكثير من معالم التراث التي تهم العالم، ويجب أن يُسلط الضوء عليها، عن طريق قائمة التراث الإنساني مثلاً، وحمايتها من أيدي العبث والإهمال والاستغلال التجاري. وأذكر هنا آثار الجوف وتبوك والعلا، وقرية الفاو، وطرق القوافل، وقلعة تاروت، ووثاج، وجدة القديمة، ومحطات سكة حديد الحجاز، وغير ذلك من المعالم، التي يعرفها المتخصصون، ولكنها يجب أن تخرج من الدائرة الأكاديمية المتخصصة إلى وعي المواطن العادي.
ومن الناحية الاقتصادية، فإن من يزور المعالم الثقافية في الدول الأخرى يرى بشكل مباشر المنافع الاقتصادية التي يمكن تحقيقها من المحافظة عليها، وإحياء ما اندثر منها، وتفسيرها، وترجمتها إلى فضاء حضاري يعكس ثقافة البلد وسكانه، وفي الوقت نفسه يحقق موارد اقتصادية تشكل في كثير من الدول جزءاً كبيراً من مواردها الاقتصادية.
ولكن المعالم الحضارية الأساسية في الجزيرة العربية، والتي تعني المسلمين بالدرجة الأولى ولكنها تهم الأمم الأخرى كذلك، هي المعالم الحضارية المتعلقة بالإسلام، فالجزيرة هي مهبط الوحي ومنها انطلقت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وفيها احتدم الصراع بين الخير والشر إلى أن انتصرت الرسالة الإسلامية وانطلقت إلى أطراف المعمورة. ولكن هل يرى الزائر، أو حتى المواطن، أي معالم توضح له هذا التاريخ، ما لم يكن قد احتفظ بمخزون كبير مما درسه في كتب التاريخ، ومخزون أكبر من الخيال؟ هل يعرف معظمنا أين وُلد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأين ترعرع؟ وأين عاش خلال حياته في مكة، ثم أي طريق سلك للهجرة إلى المدينة؟ وأماكن المحطات الرئيسة في حياته بعد ذلك، ثم حياة الخلفاء الراشدين والسنوات الأولى للدولة الإسلامية؟
إن هذا التاريخ جله موثق في كتب التاريخ والسيرة، ولكن إحياءه وتقريبه للشباب يمكن أن يتما عن طريق حماية المعالم القائمة وإحياء ما أهمل منها، وشرحه وترجمته على نحو يمكن للشباب فهمه، لأن معرفة الشباب بهذا التراث عنصر أساسي في تقوية انتمائهم وفخرهم واعتزازهم بتاريخهم وحضارتهم، والدروس التي يمكن أن يستخلصوها من معالم بلادهم الحضارية تعطي عمقاً يجب ألا يُستهان به لانتمائهم الوطني والثقافي.