قرارات الإنسان جميعها تخضع للعقل الواعي، فالمناخ الذي يعيشه وما تقع عليه عينه وتسمعه أذنه، ومن يصاحب ومن يعاشر وما يقرأ، كلها عوامل تساعد على صنع قراره، وتعمل دون الإدراك ودون الحس ودون العقل الواعي في تأثيراته

إن المعركة الحقيقية التي تواجه أمتنا في هذه الحقبة من الزمن ليست معركة احتلال أرض كما كان في أزمنة سابقة، إنما هي معركة احتلال فكر وعقل تقابلها مقاومةٌ لتحرير فكر وعقل. لقد تبدلت طبيعة المعركة من إحلال شعب مكان شعب إلى إحلال فكرة مكان فكرة، ومبدأ مكان مبدأ، وعقيدة مكان عقيدة، فالإنسان هو قوة الحياة وهو الذي يدفع ويدافع، والأرض لا تملك إلا أن تستجيب لحركة الإنسان.
وأصبحت القاعدة في تلك المعارك هي: إذا أردت أن تحتل أمة أو تستعمرها (الاستعمار بمعناه التخريبي لا الإصلاحي) فاستعمر فكرها واهزم عزيمتها وإيمانها بقضيتها، فإن فعلت أتتك أرضهم وخيراتهم تسعى إليك طواعية.
نشرت جريدة النيويورك تايمز في عددها الصادر في التاسع من فبراير 2002م مقالاً بعنوان اختطاف دورة الدماغ تبدأ الكاتبة بقولها قد لا يبدو أن هناك علاقة واضحة بين الإدمان على لعب القمار أو الحرص على حضور المباريات الرياضية أو الحماس للاستثمار في الأسهم، لكن علماء الأعصاب اكتشفوا علاقة بين كل الأنشطة التي يقوم بها الإنسان على الرغم من تفاوتها واختلافها.
ويعتقد الباحثون بناءً على الاكتشافات الحديثة في هذا العلم أن معظم، إن لم يكن جميع، تصرفات الإنسان تخضع لدورة دماغية تتكون وتتطور على مدى مراحل النمو، وهي المسؤولة عن المكافآت الاجتماعية وكذلك معظم تصرفات الإنسان وقراراته. وأعجب ما في هذا الاكتشاف الطبي الحديث هو أن النظام الدماغي والعصبي الذي يكتشف ويخمّن ويقوّم ويقدّر هذه المكافآت الاجتماعية والتي بدورها تتحكم في قرار الإنسان، هي في الحقيقة تعمل كلية خارج نظام ونطاق العقل الواعي.
يقول الدكتور جورج برنز، وهو عالم نفس من جامعة إموري في اعتقادي أن معظم قرارات الإنسان تصنع في العقل اللاواعي، مع وجود تدرج في مدى الإدراك. وأضاف إنني لا أذكر تمامًا كيف وصلت إلى عملي هذا الصباح، حيث يحتفظ الدماغ الواعي بالأشياء الأكثر أهمية، ولكن كيف يستطيع العقل أن يقرر أي الأشياء يجب تركيز العقل الواعي عليها، والجواب هو أن الدماغ يتطور منذ الأيام الأولى من حياة الإنسان بناء على ما يشاهده ويعايشه.
ويقوم الدماغ ببناء نموذج داخلي لكل شيء تقع عليه العين وتسمعه الأذن، وتدريجيّاً يتعلم كيف يمكن تحديد هذه الأشياء والتنبؤ بالتصرفات المتوقعة منها. وفي حالة دخول معلومات جديدة من الخارج على الدماغ، فإن الدماغ يعمل بصورة تلقائية، فيقارن بين المعلومات الجديدة وبين النموذج الداخلي، فإذا طابقت النموذج الداخلي (مثل قيادة السيارة إلى العمل والمرور على المشاهد اليومية النمطية بدون أي تعليق) فإن المشاهد المتكررة المعتادة المألوفة لا تصل إلى العقل الواعي. ولكن في حالة وجود مفاجأة مثل رؤية حادث سيارة في الطريق يكون هناك تفاوت بين المتوقع والواقع، فيتحول الدماغ فورًا إلى حالة جديدة من العقل الواعي، ويحتفظ الدماغ ببنك للمعلومات بناء على الخبرة التي اكتسبها الدماغ خلال حياته.
وتشكل هذه المعلومات المرجعية التي يعتمد عليها الدماغ في صنع القرار، ولكن هذه المعلومات في حد ذاتها هي كذلك حصيلة ما تقع عليه العين وتسمعه الأذن ويعايشه الإنسان في حياته ليخزن -دون إدراك الإنسان- في عقله اللاواعي.
وقد اكتشف الباحثون المادة الكيميائية المسؤولة عن التحكم في هذه الدورة الدماغية، وتسمى الدوبامين، وفي حالة توافق الحدث مع المتوقع فإن الدوبامين يفرز بكمياته المعتاد عليها لمثل هذا الحادث، أما في حالة حدوث مفاجأة أعلى من المتوقع لمثل هذا الحدث فإن الدوبامين يفرز كميات كبيرة ويرسل إشارات لأجزاء الدماغ لحثّها على القيام بالعمل والحركة والتصرف المنشود رغبة في إحداث إفراز أكبر لهذه المادة. وفي حالة أن تكون نتائج الحدث أسوأ من المتوقع فإن الدماغ لا يفرز مادة الدوبامين، فيصاب الإنسان بحالة إحباط وعدم رغبة في الحركة والعمل لانخفاض إفراز الدوبامين في الجسم.
ويؤكد العلماء أن المعادلات الرياضية التي يستخدمها علماء الاقتصاد لدراسة وفهم تغيرات السوق الاقتصادي هي ذاتها المعادلات الرياضية التي يستخدمها علماء النفس وعلماء الأعصاب والدماغ في دراسة وفهم تغيرات إفرازات مادة الدوبامين، ويؤكد الدكتور رييد مونتاجو من جامعة بايلور أن علم الأعصاب والدماغ قد يقدم مجموعة عوامل جديدة تماماً لفهم طريقة صنع القرارات الاقتصادية، بل وتؤكد طرق تطور الدماغ الحديث دور الدوبامين في الجزء الأمامي من الدماغ (الناصية) في إحداث نشوة المكافأة أو إحداث خيبة الأمل والإحباط.
علينا هنا أن نقف وقفة جادة لنسأل أنفسنا كأفراد ومجتمعات: ما هو دور الزخم الهائل من المعلومات المدروسة التي تنهال علينا ليل نهار، وتنقل لنا في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ونمط الحياة الذي يفرض علينا، وكله من تدبير وصنع وتخطيط غيرنا؟ ما دور كل هذا في صنع عقلية الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي وفي قدرته على صنع قراراته المستقلة الصغيرة منها والكبيرة؟ وما هي الخلفية العقلية والنفسية لهؤلاء الذين يصنعون القرارات الجسيمة والعظيمة لخير أمة أخرجت للناس؟ هل هي نَاصِيَةٌ صادقةٌ صائبةٌ؟ أم نَاصِيَةٌ كاذبةٌ خاطئةٌ؟
إن ما ذكرناه لا يتعارض البتة مع تعاليمنا الإسلامية، بل يؤكد مفهوماً إسلامياً مهماً، ألا وهو دور المناخ والمحيط وتأثيره في صناعة عقل وفكر الإنسان وقراراته، وليس مِن تعارض مع قوله تعالى وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن، أي طريق الصواب وطريق الخطأ، حيث إن الآية لا تعني بالضرورة أن قرارات الإنسان جميعها تخضع للعقل الواعي، فالمناخ الذي يعيش فيه الإنسان وما تقع عليه عينه وتسمعه أذنه، ومن يصاحب ومن يعاشر وما يقرأ، كلها عوامل تساعد على صنع قراره، وتعمل دون الإدراك ودون الحس ودون العقل الواعي في تأثيراته.
وإن كان الإنسان مخيراً في منشئها فهو مخيرٌ في انتقاء كثيرٍ مما يقرأ ويسمع ويرى، ومن يصاحب. ولكن لكل خيارٍ واعٍ تبعات وتأثيرات تعمل دون الإدراك ودون الوعي ودون الإحساس لتشكل المرجعية العقلية والنفسية التي تصنع القرارات والتصرفات المستقبلية.
إن مسؤولية مجتمعاتنا تتمثل في ضرورة صنع المناخات التي تشكل البيئة الصالحة والتربة الخصبة لإنجاب عقلٍ لا يحيد عن طريق الفطرة التي فطر الله الناس عليها. بل إن علينا أن نسأل أنفسنا كأفراد ومجتمعات عن دور الزخم الهائل من المعلومات التي تصدرها لنا الأمم الأخرى وتُسلّط علينا ليل نهار وتُلَقّن لنا في شتى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ونمط الحياة الذي يُفرض علينا، وكل ذلك من تدبير وصنع وتخطيط غيرنا، ما دور كل هذا في صنع عقلية الفرد
المسلم والمجتمع الإسلامي والتأثير في قدرته على صنع قراراته باستقلالية، وعلينا أن نعي أن صناعة الفرد المسلم، وصناعة المجتمع الإسلامي لا تكون بمعزل عن كل ما يدور حول الفرد وما تقع عليه عيناه وتسمعه أذناه ويشاهده ليل نهار.