الحرية والاستقلال، والشهامة، والمروءة، والإباء، من أهم ما أسسه وتأسس عليه الرجل العربي
الحرية والاستقلال، والشهامة، والمروءة، والإباء، من أهم ما أسسه وتأسس عليه الرجل العربي، فهي من صميم شخصيته التي شكلت ملامحها، واحتذت بها البشرية من بعده. فهو - أي ابن الجزيرة العربية - أقدم من وضع قَدمه على الأرض، بشهادة التاريخ، وعلماء الأنثربولوجي.
ولم يكن خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - يوم الجمعة - بغريب عن شخصه، الرجل البدوي العربي الصرف؛ فقد جاء خطابه شامخا حرا أبيا مستقلا، استطالت معه كل الرقاب العربية الحاصلة على خاتم الشهامة والمجد.
إن كلمة الملك لم تكن دعما ماديا أو معنويا لمصر فقط، بقدر ما جاءت معبرة عن موقف العرب والعروبة والمجد التليد؛ معلنة عن استقلال تام في القول والفعل عن أي مؤثرات خارجية أو داخلية، في وطننا العربي وفي بلادنا، في وقت كانت تتداعى فيه الأمم على مصر تداعي الخراف على القصعة، دون علم بثقل ووزن العرب والعروبة وصلابة حكامها وإرادة شعوبها.
كنا على شوق وبشوق لسماع كلمته - حفظه الله -، ونحن نعلم ونثق مسبقا في مواقفه البطولية، إلا أننا كنا بشوق إلى أن يسمع العالم كلمته الرنانة التي رجت أركان الدنيا كلها، وصفق لها من يحمل بين أذنيه رأسا تعي وتفهم معنى العروبة والهوية والوطن. فالوطن العربي بأكمله يحتاج إلى تدعيم أركانه والتي هي صلبه بطبيعتها، يحتاج إلى سماع هذا الصوت الأبي، والعروبي، والبطل الذي لا يختلف عن صوت - المغفور له بإذن الله - الملك فيصل بن عبدالعزيز، والذي أعاد الكرامة والإباء ليس لكل سعودي فحسب، وإنما لكل عربي في مواقفه الجمة وخاصة في حرب أكتوبر عام 73.
لقد أكد الملك عبدالله - حفظه الله - على أن العربي في جميع أرجاء الوطن العربي وفي العالم بأسره حر، أي ذو وزن من الذهب الخالص مهما تغير لون معدنه وخفت بريقه، إلا أنه يظل ذهبا بين المعادن الأخرى والمتلونة حسب مناخ كل قطرة ندى تقع عليه. المملكة - بموقعها الجغرافي وخيراتها وميزانها الاقتصادي ومكانتها الدينية، وحكومتها، وحكامها البواسل، وشعبها الأبي الحر المتسق مع عقيدته وقادته - هي رمانة ميزان الشرق، ويؤكد ذلك خطاب الملك الذي دارت له أعناق العالم وتخصص المحللون في مفرداته، لما لهذا الوطن من هامة وهمة ورجال وقيادة.
ما تحمله كلمته - حفظه الله - من مفردات، تحتاج إلى صفحات عديدة لتحليلها، والوقوف على مدارات كل كلمة فيها، فلم تكن لدعم مصر الحبيبة الوطن الغالي على قلوبنا جميعا فحسب، وإنما جاءت لتلمع في سماء العالم بأسره، بأن هناك شعبا وحكومة وثقلا لا يتكلم إلا في الأوقات الصعبة، كما جاءت لتنبه على أن المملكة وشعبها وطن لكل عربي وظهر لكل من لوح له أحد أيا كان ضده من أبناء الوطن العربي، فالعروبة لا تنفصم عن ذاتها، لأنها الهوية، والهوية في تعريفها الاصطلاحي هي الـ(هُوَ. هُوَ) أي الذي لا ينفصم عن ذاته فهو هو لا شيء يتخلله.
لا بد أن يفهم العالم، بأن الهوية العربية صلبة لا تلين، ولا يمكن لها التفكك أو التجزء، أو التغير، أو التلون، أو التشكل، مهما تلونت الظروف والأشكال، والأمكنة والأزمنة؛ وذلك حسب ما يعكسه مصطلحها الفلسفي في اسمه (الهوية).
لقد أجرينا الدراسات، والمؤتمرات، والاجتماعات حول الهوية العربية والعولمة وأهمها المؤتمر الذي أقيم في الأردن عام 2002، وكان لي عظيم الشرف بالمشاركة فيه مع كبار المفكرين العرب من جميع أرجاء الوطن العربي بأوراقهم الهامة حول هذا الخطر الداهم، والذي تمخض عن أنه لا خوف على الهوية العربية لأنها هي ذاتها لا تنفصم عنها فهي الـ(هو. هو) كما أسلفنا. وجاء خطاب خادم الحرمين - حفظه الله - بعد 11 عاما ليؤكد ما وصل إليه علماء الكلم، والحرف، وخبراء الثقافة والقلم في وطننا العربي آنذاك.
ومما لا شك فيه أننا كمثقفين - وأنا تحديدا - كنا قلقين لما يحدث لوطننا العربي وخاصة في مصر الحبيبة التي لنا فيها وفي كل بيت دم، أو صهر ونسب ورحم، أو علاقات ثقافية واقتصادية وأعلام تربينا ثقافيا على أيديهم، ولنا في تاريخنا وتربيتنا ما لنا من احترام المعلم والأستاذ ما لنا، من شأن تقديره وإعلاء مكانته، إلا أن خطابه - حفظه الله - جاء ليطمئننا ليس على مصر فحسب بل على وطننا العربي، حيث إن هناك هامات تنطق حين يسكت الآخرون، حينها شعرنا بالدماء العربية تتدفق في عروقنا قبل أن نصاب بجلطة أو سكتة دماغية (وجدانية) وهذا من رابع المستحيل بطبيعة الحال.
وعلى ذلك نستطيع القول إن مصر بخير وقوية ورائدة وهي لا تحتاج منا القول بأنها قلب الأمة العربية النابض لأنها كذلك مهما تداعت عليها الأمم، ومهما أسدل الليل ستاره، إلا أنه آن لليل أن ينجلي عنها وعن جميع الأمة العربية، لأننا قد فهمنا قدر ذاتنا، وقدراتنا، وقوتنا، كأمة عربية ووطن عربي متلاحم كما أكدته كلمة خادم الحرمين الشريفين، ومصر في المقدمة، وعلى ذلك فلسنا مع فصيل عن فصيل أو مع طرف عن دون الآخر، فهذا شأن مصري داخلي لا دخل لنا فيه، كما يقول المثل: أهل مكة أدرى بشعابها، إلا أننا مع مصر الهامة والهمة والريادة على كل الأصعدة.
حمى الله مصر وشعبها الأبي الحر المعطاء ووقاها الله شر المحن. وحفظ الله عبدالله للأمة العربية ذخرا وظهرا.