آثر السميط على نفسه أن يترك عمله الطبي طوعا، ليجسد مشروعا خيريا رائدا في مواجهة الفقر والمرض والجهل واستقطب معه فريقا من المتطوعين الذين تجاوبوا في صناعة هذا المشروع الإنساني
قال يوما إسلامي متحضر هو البوسني علي عزت بيقوفيتش إن موت إنسان يساوي بالمقدار نفسه قيمة حياته، ومن الذين لا يمكن أن يقعوا تحت غبار التجاهل هو من غادر دنيانا الخميس الماضي 2013/8/15 الداعية الكويتي عبدالرحمن بن حمود السميط وهو مؤسس جمعية العون المباشر - لجنة مسلمي أفريقيا - ورئيس مجلس إدارتها، هذا اللقب الذي لا يعني ما قد يتبادر للذهن من مكان فخم وسكرتارية مهرجانية ومساعدين ومستشارين وموظفين لسماع الأوامر، فلم يكن داعية للدعاية لنفسه كما ساخت بذلك أقدام غيره في وحل الشهرة الزائفة، فلقد انغمست قدما السميط حقيقة في الوحول الطينية التي توصل إلى قرى نائية في أفريقيا.. هناك بعيدا.. عن كل أضواء الإعلام يسير من قرية لأخرى ومن بلد لآخر، حاملا هم الضعفاء الذين ليس لهم مأوى ومتقصيا خلف ألم المرضى، وحزينا عاملا لرفع الجهل عن الجهلى.. يقول هو وغيره أنه افتدى نفسه من الموت لأكثر من مرة من معترضين أو طامعين أو همجيين، ولم يعد لبيته في الكويت لمجرد التقاط الأنفاس، بل واصل السير بين الأدغال والخطر، ولقد قام أحدهم يوما بتصويره وهو ينتقل بين قريتين وقد طمر الماء والطين أكثر من نصف قامته الفارعة ممسكا بيد زوجته ليخوض الطريق لنفع الناس بلا مقابل.
ولد الدكتور عبدالرحمن السميط في الكويت عام 1947، وتخرج من جامعة بغداد بعد أن حصل على بكالوريوس الطب والجراحة، واستكمل دراساته العليا في جامعة ماكجل الكندية، متخصصا في الأمراض الباطنية والجهاز الهضمي، حيث عمل أخصائيا في مستشفى الصباح في الكويت في الفترة من 1980 - 1983، ثم كان سبب ذهابه إلى أفريقيا دراسة عن الفقر والجهل والوضع الصحي المتردي في مناطق كثيرة من القارة الأفريقية، خاصة في مناطق المسلمين الذين لم تصلهم زكاة المسلمين ولا النفقات المشروطة من المبشرين، وتبين له أن الكثيرين منهم لا يعرفون عن الإسلام إلا خرافات وأساطير مثبطة عن الحركة والحياة والمعرفة، لا أساس لها من عقل ودين، وحين رؤيته لهذه الواقعة آثر على نفسه أن يترك عمله الطبي اختيارا وطوعا، ليجسد مشروعا خيريا متقدما ورائدا في مواجهة الفقر والمرض والعوز والجهل واستقطب معه فريقا من المتطوعين الذين تجاوبوا في صناعة هذا المشروع الإنساني، الذي تتمثل معالمه في مداواة المرضى، وتضميد جراح المنكوبين، ومواساة الفقراء والمحتاجين، إضافة إلى المسح على رأس اليتيم، وإطعام الجائعين، وإغاثة الملهوفين.
لم يفكر الداعية الأنموذج بعقل المبشر، فلم يعطِ اللقمة مقابل الإسلام، فلقد قدم خدمات كثيرة لأناس لم يقتنعوا بأن يتبعوه ولم يجد في ذلك غضاضة أن يحفر لهم بئرا أو يبني لهم مركزا صحيا أو فصلا دراسيا واعترف بذلك وبكل شجاعة لمن يبتغون الخير بدعمه ماليا.
وفي القارة السوداء - وليس في طائرة فارهة تقله لجامع في جنيف أو لندن ليحث الذين حضروا من أجل الصلاة على الصلاة ويقول لهم قصة حزينة لا سنام لها ولا خطام ثم باقة نكت لتزداد الجماهير - عمل في مجاهيل أفريقيا لرفع الوثنية التي تعبد شجرة أو حجرة أو شمسا أو شيخ قبيلة، فعمل على إيضاح تأريخ أمته في القطاع المعتم من الواقع، حيث لا يتذكرون شيئا من دين إلا أن لهم جذورا قبل مئات السنين قادمة من مكة.
حضر معه مرافق عربي جديد وفي حفل سمر بمناسبة إنجاز بئر وعلى ضوء القمر - فلا ضوء غيره - ابتهج الأفارقة ورددوا أهازيجهم وغناءهم فانبرى الداعية الجديد غاضبا يشرح آراءه الفقهية ومبرراته وتفصيلاته وتقعيداته ومراجعه ومنقولاته وأدلة مناوئيه والردود عليها، فعندما فرغ من معركته الكلامية والفقهية الصغيرة طالبه السميط - بعد صبر مذهل على السماع - وبكل لطف بالمشاركة غدا في حفر بئر أخرى وتعليمهم أن الإله في السماء وأنه يستحق التفكير ثم حمد الله أن الأفارقة لا يتقنون العربية!
ولقد نادى كثيرا بأن ينظم له من يساعده في المناطق شبه الإنسانية من يتقن الفرنسية، حيث الاستعمار غادر أو انحسر في المناجم ولم يدع للأفارقة السود شيئا غير اللغة، وبالموثق فقط وخلال مدة 30 سنة قضاها في أفريقيا أسلم على يديه أكثر من 10 ملايين، وبنى 5500 مسجد ووزع أو طبع سبعة ملايين مصحف بلغات مختلفة وكفل أكثر من 50 ألف يتيم تخرج منهم أطباء ومهندسون ومحامون وبنى 840 منشأة تعليمية من رياض الأطفال إلى الجامعات التي درس بها أكثر من نصف مليون طالب وطالبة، وحفر أكثر من 12000 بئر وبنى 90 مستوصفا ومستشفى، وأنشأ عشر محطات إذاعية في أفريقيا، وأما مقدار ما أوصل من الكتب النافعة وساعد في بناء بيوت وجسور وطرق وخدمات لفرص العمل أو مساعدة الراغبين في مواصلة تعليمهم خارج بلدانهم وغير ذلك، فلا أرقام محددة لها ولكنها تتناسب مع ما تم توثيقه، وفي كل مرة يعزو الفضل في جهوده لغيره ممن يعمل معه أو يدعمه، في وقت يعود لبلده قاص أو واعظ سافر إلى الشانزليزيه بغرض ما قال عنه رحلة للدعوة، ثم عاد من هناك ليصف التحضر الباريسي بأبلغ من وصف رفاعة الطهطاوي وبانكسار أكثر من انكسارات سلامة موسى، ليضع العيب في بني بلده الذين لم يكتشفوا التعامل المتحضر الفرنسي كما تلقاه!
وتضطر الذاكرة للمقارنة حين يتذكر الإنسان أمثلة مؤلمة تحمل مسميات متورمة بدعم الإعلام والنكتة، أما السميط فيعود من رحلاته بين ملاريا أفريقيا ليقول في أحد لقاءاته المصورة لمستمعيه ومتابعيه من رجال ونساء: أنتم أفضل مني.. حيث قدراتكم أفضل وإيمانكم بوجوب العمل الخيري أعلى ويستوجب عليكم بذل الجهد لمساعدة الناس، وهو من اتفق على محبته والثناء على عمله وعطائه جميع الأطياف الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، واستحق جوائز وتقديرات كثيرة، منها جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام عام 1996 التي تبرع بمكافأتها للوقف التعليمي لأبناء أفريقيا.
كان انطلاقه - الذي لم يتوقف إلا بمرض موته - في العمل الخيري يؤكد تماما عدم خضوعه لتيار أو تحيز لبلد أو توجه محدود، فالاستقلال أحد أسباب نجاحه، ويد السميط كانت بيد معينته زوجته السيدة نورية محمد البداح، شريكته في العمل الخيري، حيث رأت حياة زوجها ذات قيمة فشاركته وهي من طبقة أروستقراطية في بلدها وكانت الأهداف العالية الطموحة أكبر من أن تُوقفها محبة الرفاهية والنعيم وقد تحدث كيف أن زوجته (بنت العز) ترى روعة الدنيا وسعادتها في العطاء ومساعدة المحتاجين، مع أنها تجلس على فراش وتأكل طعاما لا يرضاه لنفسه أقل خدام بني طبقتها... ولكن النفوس كانت كبارا..
رحم الله عبدالرحمن السميط فلقد أنجز وقدم ما لم تقدمه حكومات ودُول فكان أمة في رجل.