كان من الطبيعي أن يكون للثورة الإيرانية مناصروها ومؤيدوها والمتحمسون لها، نظرياً وتطبيقاً على أرض الواقع في لبنان، وخاصة بين الشباب الشيعي الملتزم مذهبياً بشيعيته

خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975، كان معظم ـ إن لم نقل كل الطوائف الدينية والمذهبية والأحزاب السياسية ذات الأجندات العقائدية في لبنان ـ لديها أجنحة عسكرية، مجموعة مسلحة من الميليشيات المكونة من أفراد مسلحين ينتمون لهذه الطائفة أو لهذا الجناح من الطائفة، أو ينتمون أيديولوجياً لذاك الحزب أو للآخر. وكل حزب طائفة أو حزب جناح من طائفة، أو حتى حزب إيديولوجي، لا يمثل طائفة بعينها في لبنان؛ هو بالتأكيد مدعوم مادياً وتسليحاً وسياسياً من هذا المحور أو ذاك خارج لبنان. جذور حزب الله، المتمثلة بداية بمنظمة الجهاد الإسلامي، تشكلت في عام 1982، خلال الغزو الإسرائيلي للبنان، وطرد قوات المنظمات الفلسطينية المرابطة في جنوب لبنان، الذي أحدث فراغ مقاومة، في جنوب لبنان، المحاذي والمتداخل جغرافياً مع شمال إسرائيل؛ حيث كان الممر والمستقر للجيش الإسرائيلي الغازي للبنان كل لبنان.
كانت كوادر من الطائفة الشيعية الشبابية في لبنان، الوطنية منها والعروبية واليسارية، قد انخرطت في نضالها ضد الاعتداءات الإسرائيلية والوجود الغربي في لبنان، والأحزاب اليمينية اللبنانية، ضمن كوادر الأحزاب والتنظيمات الثورية والعروبية واليسارية في لبنان، وأيضاً ضمن كوادر المنظمات الفلسطينية المتمركزة حينها في جنوب لبنان، وهو في المجمل ذو أغلبية شيعية. ولكن عندما أعلن الشيخ السيد موسى الصدر، تأسيس منظمة أمل اللبنانية، 1975، والتي كانت امتدادا لحركة المحرومين في جنوب لبنان، والتي أسسها السيد الصدر في الستينيات من القرن المنصرم، انخرطت معظم الكوادر الشبابية الشيعية المناضلة، والتي كانت منخرطة في صفوف المنظمات الفلسطينية وأحزاب الجبهة الوطنية اللبنانية، إلى صفوف حركة أمل الجديدة، والتي أخذت تمثل الطائفة الشيعية في لبنان. وبدأت حركة أمل تنتشر في أماكن وجود الشيعة في جنوب لبنان والبقاع والضاحية الجنوبية. وعليه انخرطت ميليشيات حركة أمل مباشرة في الحرب الأهلية مثلها مثل باقي أحزاب وميليشيات الطوائف الأخرى؛ وخاصة بعد اختفاء مؤسس الحركة، السيد موسى الصدر في ليبيا عام 1978.
وبما أن أغلب قواعد منظمة أمل كانت موجودة في جنوب لبنان، بحكم الوجود الشيعي الكثيف هناك، انخرطت المنظمة بجناحها العسكري، مع باقي المنظمات اللبنانية والفلسطينية، التي عادت لجنوب لبنان، لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وأصبحت جزءا من حركة المقاومة الوطنية في جنوب لبنان. خاصة كون المؤسس للحركة السيد الصدر، قد وصف إسرائيل بالغدة السرطانية، التي يستلزم استئصالها قبل أن يمتد وينتشر بلاؤها شيئاً فشيئاً لكل من حولها.
بعد اندلاع الثورة الإسلامية في إيران، عام 1979، حدد قادة الثورة منذ البداية عداء الثورة لإسرائيل وتصديها للوجود الصهيوني والغربي في المنطقة؛ وعليه بدأت الحكومة الإيرانية الجديدة، دعم حركة أمل، بالسلاح والمال. وبما أن حركة أمل تأسست قبل قيام الثورة الإيرانية بأربع سنوات، وكذلك قبل سنة من تدخل الجيش السوري في لبنان، عام 1976، وكذلك قبل غزو إسرائيل للبنان، بسبع سنوات؛ فقد كانت لها ارتباطاتها الداخلية والخارجية، والنابعة من نظرتها هي لمصلحتها الذاتية أو كما هي تعده مصلحة لبنان. وهنا تكمن صعوبة ادعاء إيران أو سورية أو غيرهما بالفضل في تأسيس حركة أمل، ولا في دخولها المعترك السياسي اللبناني، كقوة من القوى اللبنانية الوطنية المعتبرة. كما أن حركة أمل ـ مثلها مثل بقية التنظيمات والأحزاب اللبنانية ـ انغمست في غمار صراع الحرب الأهلية اللبنانية، التي وصلت في بعض الأحيان درجة من التوحش، تفقد أي تنظيم وتفقد المصداقية الأخلاقية المقنعة.
بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، أخذت عدد من الحركات الإسلامية، السنية منها ناهيك عن الشيعية، تأمل بإمكانية وصولها للسلطة، وأخذت تسعى لذلك. كما بثت الثورة الإيرانية الروح مجدداً في إمكانية تحقيق حلم قيام الدولة الإسلامية المنتظرة في العالم العربي. وهذا ما شجع قيادات الثورة الإسلامية الإيرانية، على تبني فكرة تصدير الثورة، لخارج حدود إيران آنذاك. كانت لبنان في تلك الفترة تمثل الأرض الخصبة لكل دول العالم البعيدة عنها والقريبة منها؛ لبث أذرعة خاصة بها في لبنان؛ ولتقاتل من فوق أرضها المستعرة القريب منها والبعيد عنها كذلك. خاصة أن الثورة الإيرانية في بدايتها رفعت شعارات الموت لأميركا ولإسرائيل، والعداء للغرب بشكل عام. ولما نجحت الثورة وتولت أول حكوماتها إدارة دفة البلاد؛ حولت شعاراتها الثورية إلى إطار تتحرك داخله سياساتها الخارجية.
كان من الطبيعي أن يكون المسرح الأول لشن حكومة الثورة الإيرانية حربها، ضد أميركا وإسرائيل والقوات الغربية هو أرض لبنان؛ حيث كانت توجد هناك ومنغمسة بالحرب الأهلية هناك، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. كما كان من الطبيعي أيضاً أن يكون للثورة الإيرانية مناصروها ومؤيدوها والمتحمسون لها، نظرياً وتطبيقاً على أرض الواقع في لبنان، وخاصة بين الشباب الشيعي، الملتزم مذهبياً بشيعيته، أو الملتزم منهم أيديولوجياً بعروبته ويساريته. وهنا وصلت طلائع من الحرس الثوري للبنان، وكانت المناطق الشيعية في لبنان، هي من احتضنتهم وأمنتهم، أكثر من غيرها من المناطق الأخرى. في البداية، كان تعامل الحكومة الإيرانية مع حركة أمل في لبنان؛ ولكن سرعان ما فكر قيادات جهاز الحرس الثوري الموجودون في لبنان، في تكوين حركة ثورية تكون أقرب وأأمن لهم من حركة أمل والحركات الثورية الأخرى؛ فتم تجنيد بعض الشباب المتحمسين جداً لنهج الإمام الخميني من شبيبة حركة أمل، وتكوين حركة الجهاد الإسلامية السرية منهم؛ والذين بدورهم شكلوا النواة الأولى لحزب الله في جنوب لبنان والبقاع، وفي الضاحية الجنوبية أيضاً.
حيث كان من المفترض أن تعزل المقاومة الإسلامية الجديدة عن حركة أمل، وتجنب التورط في الحرب الأهلية اللبنانية؛ لتركز جل اهتمامها وقوتها وجهودها على مقاومة القوات الإسرائيلية الغازية للبنان.
ولقد حقق التنظيم السري، حركة الجهاد الإسلامية، ضربات قاتلة وموجعة للجيش الفرنسي والمارينز الأميركي في لبنان، اضطرهما لمغادرة لبنان؛ مما أقنع القيادة السورية، التي يوجد جيشها آنذاك بكثافة في لبنان، ممثلاً لقوات الردع العربية، بمعاضدة ومساندة الحرس الثوري في دعم وتدريب وتسليح وتقوية تنظيم الجهاد السري، وتحويله إلى مقاومة مسلحة علنية لقوات الاحتلال الإسرائيلي في لبنان؛ تحت مسمى المقاومة الإسلامية اللبنانية والتي تم إدراجها ضمن قوى المقاومة الوطنية اللبنانية في جنوب لبنان. وكبر جناح المقاومة الإسلامية داخل المقاومة الوطنية اللبنانية؛ وحقق ضربات موجعة جداً للجيش الإسرائيلي الغازي، وتم تشكيل قيادة سياسية لجناح المقاومة الإسلامية؛ وتمت تسميتهما بحزب الله.
لماذا نجح حزب الله في تسديد الضربات الموجعة والقاتلة للجيش الإسرائيلي وإنهاكه وإجباره على الخروج من لبنان بلا أي قيد أو شرط؟ الجواب هو ما سأتناوله في مقالي القادم، تحت عنوان: حزب الله.. ثقافة المؤسسة.