لا ننتظر تحسين الصورة بما لا يتناسب مع الواقع، فالدراما ليست إلا انعكاسا للواقع ولثقافة العصر، وبالرغم من ذلك فالواقع لا يخلو من نماذج مشرفة تعمل على توازن الصورة

نحن لا نمتلك إلا البشر، فالوطن هو البشر المقيمون على أرض مخصصة لهم، وهو مشتق من موطن، وبالتالي فالبشر هم الثروة لحماية الأرض المقيمين عليها والمتوارثة عبر جيناتها البشرية. ولعل وجود صورة المرأة في الأعمال الأدبية يحتل انعكاسا للوطن لما فيه من إحالات رمزية دأب المبدعون على استخدام هذا الرمز كما هو متفق عليه في علم العلامة لدى النقاد والمحللين. وسواء كان هذا أو ذاك أو هما معا كان تبادل المواقع بين الحقيقة والرمز، إلا أن المرأة تظل هاجس كل المبدعين والمحللين، للوصول إلى كنه حقيقة المجتمعات وبنية الأوطان.
ولم يكن هذا التلازم بين الحقيقة والانعكاس على صيغة الصفة ومفهوم الأنثى إلا من مفهوم الرحم الذي يلد ويدفع من باطنه أجيالا تتخذ من جيناتها نموذجا خاصا بها وبالتالي أصبحت وطنا، فلا يمكن تزييفه أو الالتواء عليه. هذا على المستوى الفلسفي للمعنى، أما على مستوى التحليل المنطقي والثقافي، فهو أن المرأة هي الكفاح المستمر والدؤوب من أجل ترسيخ مبادئ الحرية والوطنية والعقائدية وما إلى ذلك من مبادئ تتخذها المجتمعات نبراسا لها أيا كانت هذه المبادئ أو تلك. وبالتالي فالمرأة هي الجين الأساس في تكوين صبغة المجتمع شئنا أم أبينا! وهنا تكمن الخطورة! فلماذا يصر صناع الدراما في وطننا العربي على تشوية صورة المرأة العربية في الإعلام وخاصة في الدراما؟ وهم بذلك لا يدركون مدى خطورة ذلك! لأنهم بكل تلك الصور المتطايرة هنا وهناك يقذفون مجتمعاتنا بحمم بركانية لا قبل لنا بها!
ولقد تململ وكسد كثير من الدراسات العالمية والعربية حول صورة المرأة العربية في الإعلام العربي ذاته، ومنها مؤتمر أعدته منظمة اليونيفيم لهذه القضية وعملت على فريق بحث على مستوى دولي وعرضته في جامعة الدول العربية منذ عدة سنوات وكانت قد توصلت إلى كثير من الصور المشينة للمرأة العربية في إعلامها.
حقيقة الأمر نحن لا نتناول هذا الموضوع الخطير من مبدأ (جنسوي) بقدر ما يمكن تسليط الضوء على انعكاس هذه الصورة في الذهنية العربية ذاتها وبالتالي ترسخ صورا عنها تجعل المجتمع نفسه أعرج أو (أعور) فلا يترجل إلا برجل واحدة أو لا يرى إلا بعين واحدة فتصبح الحقيقة والبنية والمجتمع والتكوين الشخصي لدى الشخصية نفسها منقوصة والحقيقة نسبية، وبالتالي تترك ذلك الأثر في نفوس المشاهدين وهو الأثر الخفي.
وفي دراما هذا العام نلحظ أن الكتاب يتمادون في هذا الأمر دون دراية عما سيسببه هذا العمل أو ذاك في المجتمع وبنائه مستقبلا، ثم نعود ونشتكي ونحن من يفعل ذلك بأيدينا. ولعل ذلك يرجع إلى عدم التخصص في حرفية الكتابة والدراية الكاملة عن مداراتها النفسية في أذهان الآخرين. فنجد على سبيل المثال لا الحصر مسلسل الشك، بطولة رغدة ومي عزالدين، حيث يدور العمل بأكمله حول التشكيك في نسب الأبناء واللجوء إلى تحاليل (دي إن أي). أليس أحرى بالقائمين على هذا العمل أن يتحروا ما ستزرعه هذه الفكرة من تحطيم ذهني لصورة المرأة؟ ونزع ميثاق الشرف المقدر بين أفراد العائلة؟ ثم نجد الابنة تقف في وجه والدتها من أجل المال بكل أمر يخالف مواثيق الدين والعرف والأخلاق؟ ثم ننتقل إلى مسلسل الزوجة الثانية وهي المعالجة الثانية لفيلم الزوجة الثانية في الستينات. فنجد شخصية فاطمة هي تلك التي تتنازل عن زوجها وأبنائها بدون مبالاة لما يحدث في عالمها الخاص، وتنساق وراء تعدد الرغبات! صورة سيئة أيضا للمرأة العربية المعاصرة، على خلاف ما رأيناه في شخصية المرأة في الفيلم والتي جسدتها الفنانة سعاد حسني من إخراج صلاح أبو سيف، وكأنه يغزل خيوط الدراما بخيط من الحرير الناعم!
ثم ننتقل إلى صورة أخرى من صور المرأة في دراما هذا العام وهي شخصية الأم البديلة والتي جسدتها الفنانة صفاء الطوخي في مسلسل اسم مؤقت. تلك المرأة التي تظهر في بداية العمل كأم ثم تتضح في نهاية العمل أنها أم بديلة له حينما كان في أحد دور الرعاية، فنجدها تتآمر وتتنكر وتأخذ كل منحنى يمكن أن يخرجها من أزمة أو يدر عليها منافع تعمل لها ألف حساب! ونجد شخصية الأم في مسلسل مزاج الخير- والتي جسدتها الفنانة سميحة أيوب - شخصية تاجرة مخدرات متسلطة ومدمرة لما هو شفاف وبراق لدى المرأة بشكل عام، وفي مسلسل آخر وهو خلف الله بطولة الفنان نور الشريف نجد عددا من الشخصيات الدرامية النسائية الضعيفة المنكسرة المغلوبة على أمرها والتي تتشبث بأي رجل في طريقها حتى لو كان دجالا أو عرافا أو ما إلى ذلك، لأن المجتمع لا يعترف إلا بقوة الرجل فقط!
في حقيقة الأمر أننا لا ننتظر تحسين الصورة بما لا يتناسب مع الواقع، فالدراما ما هي إلا انعكاس للواقع ولثقافة العصر، وبالرغم من ذلك فالواقع لا يخلو من نماذج مشرفة تعمل على توازن الصورة واكتمال الفكر الفلسفي من وراء عمل درامي يطرح ذاته على وجدان المجتمع المعبأ (بمحلول الجفاف) في هذا الزمن، وبناء عليه نرى ذلك الانعكاس على الوجدان الجمعي، فنرى تزايد نسبة الطلاق، ونجد العزوف عن الزواج من الجنسين وانتشار العنوسة، ونجد الفوضى في الشارع وانحلالا أخلاقيا بدون مراعاة لوضع المرأة وارتقاء مكانتها - فهي الأم والابنة والزوجة وأم الجيل القادم - جراء ما تتركه الدراما في أعماق الذهنية العربية!
وعلى أية حال فإن ما حققته أمتنا العربية من زهو ومن انتصارات في ساحات المعارك وفي العلوم والفنون أيضا كان هناك زهو وألق في صورة المرأة في أدبنا وفي أشعارنا وحتى في الحكايات الشعبية، فهذا لا ينفصل عن ذاك بل قد يكون منبثقا منه. على أية حال لا بد من وجود دارسين متخصصين في الدراما وآثارها خلف إجازة استقدام أو شراء أو إنتاج عمل يتحول إلى سرطان اجتماعي، وها هو حالنا!