بدلا من الانشغال بما يفرقنا، وندخل في حوارات بيزنطية لا تؤخر ولا تقدم، بل في أحيان كثيرة تتسبب في اتساع الفجوات بين شرائح المجتمع الواحد، لنفكر بطرق كيف نحمي الإنسان ونبنيه
في طريقي من مدينة إلى مدينة أخرى في ولاية كاليفورنيا، شاهدت على لوحة معلومات الطريق التي عادة ما تكون بخط عريض وبأحرف مضاءة وقوية كي يراها المسافر بكل وضوح، ظهرت عليها المعلومات التالية: طفل مخطوف، سيارة نيسان زرقاء (إضافة إلى رقم لوحة السيارة)... وبعد مسافة أخرى ظهرت المعلومات نفسها.. ثم أيضا بعد مسافة أخرى، أي بمعدل مسافة كل نصف ساعة ظهرت المعلومات للمسافرين على الطريق.. شدني الأمر وقررت حين أعود لمدينتي أن أجري بحثا عن الموضوع.
أتدكر حينما كنت طالبة في المرحلة الثانوية، كان البحث عن الأطفال المخطوفين أو المختفين، لا يتعدى إلصاق إعلانات ورقية على لوحات في المراكز العامة والأسواق، ثم تطور الأمر على ما أذكر وأضيف وضع صور الأطفال على علب الحليب، مجهود قام به والد أحد الأطفال بعد ما خطف ابنه ووجد مقطوع الرأس، لم يستسلم بل استمر وقام بنشاط اجتماعي توعوي من محاضرات ومقابلات إعلامية لينبه الجميع إلى خطورة الأمر، وبسببه تم نشر صور الأطفال على علب الحليب، واليوم أجد أن الأمر تطور في إشراك جميع شرائح المجتمع في البحث السريع عن الأطفال المخطوفين، لأنه وحسب الدراسات التي أجريت عندهم يتم قتل الضحية والتخلص منها خلال أول ثلاث ساعات من الخطف.
ما شاهدته هو جزء من برنامج حماية تم إطلاقه من قبل وزارة العدل على مستوى الولايات المتحدة، تمت تسميته Amber Alert بعد أن تم اختطاف وقتل طفلة ذات تسع سنوات من أمام منزلها، وهنا أيضا لم تستسلم الأم وقامت بجهود جبارة وأطلقت حملة لحماية الأطفال، منها انبثق هذا التنبيه وسمي آمبر على اسم ابنتها.. المهم هنا أنه لم يتم ذلك بين ليلة وضحاها، أخد الأمر ليتحقق أكثر سنتين من العمل المتواصل، واشترك فيه مسؤولون من أعلى المراكز في الدولة لكي يصاغ الأمر كقانون بمفردات واضحة وقابلة للتنفيذ، منه ترجم إلى استراتيجيات وخطط تحرك يجند من خلالها المجتمع المحلي بأكملة وبأقصى سرعة؛ مثل وضع المعلومات على إعلانات الطرق، وإرسال رسائل قصيرة على الهواتف النقالة ترن على شاكلة جرس إنذار حين تصل للجهاز، وعلى قنوات التلفزة والمذياع المحلية، وعلى أماكن التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك والتويتر، وعلى الحدود في حالة تم الشك بأن الخاطف قد يلجأ إلى كندا أو المكسيك، المهم أن الخاطف يحاصر بكل السبل المتاحة، ولقد تم إنقاذ الكثير من خلال هذه الطريقة، حتى إن أحد الخاطفين تراجع وترك الضحية وهرب حين رأى التنبيه.
لقد تبنت هذا البرنامج عدة دول، منها كندا وبريطانيا وفرنسا وماليزيا وغيرها، طبعا بأسماء أخرى لكن بنفس الغرض والطرق المتبعة، كل ذلك بفضل مجهود قامت به أم لتحمي أبناء الغير وتجنبهم ما طالها من فجيعة وألم... نعم كان هنالك من استغل الوضع لأمور عائلية أو انتقام شخصي أو ما شابه، وفي بداية الأمر لم يكن العدد بقليل، ولكن حين تم تطبيق قانون العقوبات الصارم عليهم، خفت البلاغات الكيدية، وتم التركيز على حالات الخطف من قبل الغرباء... والقصة التي شدت انتباهي لم تحل إلى حين كتابة هده السطور، فالخاطف الذي قتل الأم وخطف ابنتها ذات الستة عشر عاما وأخاها الذي لم يتم الثامنة من عمره، ما زال البحث عنه جاريا، ولكنه على الأقل لن يستطيع أن يتحرك بحرية كما يريد فهو محاصر، وأتمنى أن يتم إلقاء القبض عليه في أسرع وقت ممكن قبل أن يؤذي الأطفال أيضا.
السؤال هنا: لماذا لم نتبن برنامجا جبارا هكذا في البحث عن الأطفال أو الأفراد المختفين؟ نعم ولله الحمد ليست عندنا جرائم خطف وقتل أطفال بنفس النسب التي لديهم، ولكن لدينا أطفال يختفون من أمام منازلهم في أماكن أخرى، ولقد أسهم شباب واع ومسؤول على تويتر في عمليات البحث، في بعضها تم التوصل إلى الطفل الضائع، ومرة على ما أذكر كان مسنا ومرة كان أحدهم يعاني من مشاكل نفسية، المهم هناك إرادة لدى شريحة واسعة من مجتمعنا، وهم الشباب، ولقد أثبتوا أكثر من مرة تفاعلهم وسرعة تحركهم. إذن الإرادة موجودة وما يحتاجونه هو الدعم من خلال إطلاق برنامج إعلامي عام يحاصر الخاطف إن وجد، ويسرع من عمليات البحث عن الأطفال في حالات الفقد أو الخطف. بالمناسبة، كانت فكرة إشراك الإعلام وشبكات التواصل ولوحات المعلومات على الخط السريع، لشخص من المجال الإعلامي والتي تم تنفيذها من خلال تشريع القانون.. فدور الإعلامي ليس النقل والحوار والتثقيف والترفيه، إنه أيضا المشاركة في إيجاد الحلول والإبداع بذلك.
رسالة إلى الجميع؛ بدلا من الانشغال بما يفرقنا، وندخل في حوارات بيزنطية لا تؤخر ولا تقدم، بل في أحيان كثيرة تتسبب في اتساع الفجوات بين شرائح المجتمع الواحد إن لم تكن الأمة الواحدة، لنفكر بطرق كيف نحمي الإنسان... نبني الإنسان... نأخد بأيدي بعضنا البعض لنعود كما أراد الله سبحانه وتعالى لنا أن نكون.. مرآة للإنسانية.