سرا، وفي لحظات مصارحة، تتهمني والدتي – يحفظها الله – بأنني لم أهبها عيديتها المعتادة، ويبدو أن حسابات الوالدة في يوم العيد قد تلخبطت، بسبب كثرة الدخل، وفي ظل ارتفاع أرقام العيديات وارتفاع الأسعار أيضا، على الرغم من أنني أعطيتها العيدية فكة، ولم أعطها جابرة كغيري، لكنها نسيت بسبب اختلاط الخمسينات الأربعين بـالخمسميات.
هذه الحادثة المضحكة بيني وبين والدتي، بعد العودة من الديرة في ثاني أيام العيد، تبرهن أن كثرة الفلوس جالبة للخلط والنسيان، وذلك ينسحب على الواردات وعلى المصروفات في ذات الوقت.
صعقت والدتي تماماً حينما تأكدت أنني دفعت لها قبل غيري، بعد أن اتهمتني بتهمة خطيرة وهي أنني سمطْت العيدية، في تهمة صريحة بالفساد، وعدم دفع الحق العام (حق والدتي) من المال الخاص، لكنها ـ بعد التأكد من نزاهتي ـ استعاذت بالله من إبليس الرجيم، وقالت: ولو الأربعين خمسين ما عدها تساوي شيء في ذا المدة، ثم توقفت والدتي عند لحظات غابرة من الزمن. ففي ذاكرتها أن كيلو الطماطم بريالين، والموز بثلاثة، وعلبة اللبن بخمسة، وتعبئة أسطوانة الغاز بسبعة أريل، وكأنها تراجع ملف فواتير قديمة لسوق انقرض زمنه، وانقرض باعته، وانقرض مشتروه، وانقرضت أسعاره، بل وانقرضت بضائعه الجيدة، لتحل محلها بضائع تقليد، حتى الطماطم صارت تقليد ومن نتاج البيوت المحمية، التي لا طعم لخضرتها ولا سعم كما تقول أمي.
أتذكر قبل أعوام ذهول والدتي التي كانت مسكونة بحديث الغاز، وهي تقول لابني الأكبر: تصدِّق يا مازن أن الأسطوانة بخمسة عشر. ولأنها ـ حفظها الله ـ تعود إلى زمن غابر، وتنتمي إلى جيل من موديل منقرض، فإنها تعيد الأسباب إلى البياعين، مستعيدة طمع بعضهم في أسواق منقرضة أيضا، حينما كانت الطماطم تُشترى بـمد بر، لتضيف: والبر أغلى من القوطة يا ولدي لكنهم يطمعون فينا.
ولاء أمي للقناة الأولى، جعلها تثق بكل تصريحات الوزراء المعنيين، وتلقي اللوم على البياعين فقط، لأنها تستمع إلى وزير يهدد بفرض عقوبات على المحتكرين، وآخر تكلم ـ قبل سنوات ـ عن الضرب بيد من حديد على المتلاعبين بأسعار الشعير، قائلة: الله يقويه، وكل ذلك لحرصها على غنم خلق الله وحلالهم، ولذلك تصدّق وتؤمن أن البياعين هم السبب في مشكلة ارتفاع الأسعار. الله يعطيها على قد نيتها.