هناك تطرف في النقد، ولكن لا يجوز أن ينجرف المجتمع مع تلك الدعوات التي قد لا تدرك خطورة اللعب بالنار، والتي قد تؤدي إلى هدم كل ما بناه الأجداد في أيام معدودة

عندما يعيش بعض المواطنين في عوَز، ويرى ـ في الوقت نفسه ـ بعض الفاسدين يعيشون على أكتاف البلد والمجتمع؛ فإنه حقا يشعر بالغبن والظلم! لكن، ومع ذلك هل نحن في وضع يجعل منا أن نكرر الحمد لله نحن بخير وأحسن حالا من غيرنا؟
عندما تسأل هذا السؤال كبار السن من أهل الحكمة وممن خاضوا غمار الكثير من التجارب؛ فإنه يمكنهم تمييز قدر ما نحن فيه من النعمة الآن، حيث الأمن والاستقرار وتوفر الملبس والمأكل ولله الحمد والمنة.
عاشت بلادنا أغلب عمرها التاريخي إن لم يكن كله، في فقر وشح مُدْقِع في الموارد الحياتية بفعل الجغرافيا والمناخ القاسيين، ولم تعرف الأمن الحقيقي والحياة المدنية في تاريخها، وكان الكثير من الناس يلجؤون إلى الهجرة كي يتمكنوا من العيش.
لم تكن هذه الأرض مكانا للحضارة في تاريخها بسبب ندرة الموارد أيضا! ومن الطبيعي أن تؤثر الجغرافيا في طبائع البشر وتصرفاتهم، حيث عاشت منطقتنا الكثير من الحروب والتفرق والتشرذم! لم يكن يجمع الناس شيء، لا وطن ولا دولة، على الرغم من وحدة الدين واللغة! حتى في فترات عز تعاقب الخلافة العثمانية مثلا؛ لم تشأ أن تترك حامية عسكرية بسبب زهدهم في الصحاري المجدبة!
وعندما يحاول أن يتخيل الإنسان كيفية الوضع فيما لو لا سمح الله لم توجد دولة قوية؛ فإن أقرب الحالات للتصور عندها هو رجوع الحالة السابقة لهذه الدولة التي تجمعنا اليوم، وهي حالة التفكك والتشرذم والتقاتل القبلي والطائفي لا سمح الله! ستكون صورة سوداء من الفقر والجوع في الكثير من الأماكن الخالية من أي موارد معيشية تمكن أهلها من الحياة!
حتى لو حاول الناس اللجوء للحياة البدائية بالزراعة والرعي؛ فإن موارد البلد لا يمكن أن تتحمل هذه الأعداد من الناس اليوم!
نعم الحمد لله نحن بخير والله! ولكن لا يعرف الناس الخير الذي هم فيه إلا إذا فقدوه لا سمح الله.
ولكن أيضا لا يجوز استخدام هذه المقدمة في الدفاع عن الفاسدين أبدا، بل هذا مما قد يسهم في زيادة التذمر واللاوعي لدى الناس، وبالنظر إلى التأريخ؛ فإن أكثر من يتسبب في التفكك والضعف هم الفاسدون وانتشار الفساد والظلم، ولذلك فإن استمرار سياسة خادم الحرمين الشريفين في محاربة الفساد ودعم النزاهة من أهم الخطوات الاستراتيجية نحو استمرارية نعمة الاستقرار والرخاء التي نعيشها ولله الحمد.
وبالإضافة إلى كون الفاسدين هم أكثر من يتسبب في الضعف والتفكك؛ فإن الجهلة والرعاع عندما يصبح لهم قوة، فهم لا يقلون خطرا عن سابقيهم أيضا؛ حيث الجهل والاندفاع نحو المجهول، كالطفل عندما يهرب من العدو إلى غيره!
العالم العربي يمر اليوم بمرحلة ثورية غير مسبوقة أصبح فيها الكثير من الناس لا يستميلهم إلا الدعوات الثورية والاستخفاف بكل منجز والتحريض والاندفاع أحيانا نحو النقد الهدّام وليس البناء، مما قد يساهم في إضعاف المنجز أيضا بدلا من تنميته! كثير من ذلك الشعور الثوري قد لا يكون حرصا على البلد، بل كثيرا ما يكون شعورا أنانيا نحو حب الظهور والتميز وتكثير الأتباع والمصفقين البسطاء!
هناك تطرف في النقد، ولكن لا يجوز أن ينجرف المجتمع مع تلك الدعوات التي قد لا تدرك خطورة اللعب بالنار، والتي قد تؤدي إلى هدم كل ما بناه الأجداد في أيام معدودة!
ما أصعب البناء والصبر على مشاقّه وطول مراحله، وما أسهل أن تهدم بلدا كاملا في أيام معدودة! ولذلك فإن العقول الجاهلة كثيرا ما تميل بشكل لا إرادي نحو الهدم؛ كونه أسهل عليها من البناء، والتي قد تكون لا تمتلك قدرات البناء أصلا!
يجب أن يدرك الناس المدركات والإنجازات التي يتمتع بها بلدنا، ووالله لا تنفع ساعة مندم عندما نفقد الكثير مما نتمتع به اليوم ونبكي على تلك النعمة!
يجب أن نُكرّس اهتمامنا بتربية الأجيال على منجز الأمن والاستقرار في البلد، كما يجب أن يُنمَّى الشعور الوطني الواحد، وتعزيز التماسك والوحدة الوطنية وتماسك الشعب بيد واحدة باختلاف مناطقه وتوجهاته وأطيافه، هذه ربما من أعظم منجزات الأجداد التي على أساسها نعيش ما نحن فيه اليوم، ولو فرطنا فيها يوما؛ فإن كل ما بناه الأجداد قد يذهب ويتلاشى.
يجب أن يدرك الناس أن هذا البلد بعظمته لم يكن أجدادنا يوما يصل خيالهم إلى ما نحن عليه الآن! ووالله إن أخشى ما أخشاه على بلدي هو أولئك الجهلة الذين ينفخون في النار ويسطحون المشاكل ويستخفون بالعقبات.
وأكثر ما يدق ناقوس الخطر أن تجد حتى ذلك الشاب اليافع الذي لم يكمل دراسته ولا يملك أدنى شعور بالمسؤولية؛ لا يفتتح حديثه إلا بإلقاء مسؤولية فشله وكسله على الآخرين! ثم عندما ترى اندفاع الجهال وعامة الناس غير المثقفين في النقد الهدّام الذي لا ينبني على فهم وإدراك أصلا!
نعم لدينا مشكلات كثيرة، لدينا فقراء ومحتاجون، ولكن الحمد لله كثيرا أننا بخير مهما كان، وأسأل الله أن يديم نعمته ويزيدنا من فضله.