تحلية المياه مرتفعة التكلفة، إلاّ أنها توزع على المنازل بأسعار رمزية نسبياً، تُخفي تكلفتها الحقيقية، ولا تدفعنا إلى التفكير في الحفاظ عليها. ومع أن وزارة الماء والكهرباء توزع بعض أدوات المحافظة على المياه في المنازل، إلا أن استخدامها الفعلي محدود
المملكة العربية السعودية من أكثر مناطق العالم جفافاً، فلا يهطل عليها سوى القليل من المطر، وليست فيها أنهار جارية أو بحيرات. وقد حباها الله بحقول غنية بالمياه الجوفية العميقة، ولكن معظمها قد استنزف في الزراعة. وبهذه الظروف، يتوقع المرء أن نكون أكثر الناس حرصاً على توفير الماء في منازلنا، ولكن ذلك لم يكن. ففي المعدل يستهلك المنزل السعودي من الماء ضعف ما تستهلكه المنازل في الدول الأخرى التي تتمتع بمياه جارية وبحيرات وأنهار دائمة.
ويأتي هذا الإسراف في استهلاك الماء على الرغم من تعليمات ديننا الحنيف بالمحافظة عليه، وما قام به أسلافنا من جهود وحرص في سائر مناحي حياتهم على المحافظة على المياه. ولكننا تركنا كل ذلك، وأصبحنا نُسرف في استهلاكها، على الرغم من أن مخزوننا منها يتناقص، وتكلفة تحليتها تتزايد.
ففي يوم الأربعاء الماضي (31 يوليو) رفع وزير الماء والكهرباء النذير عن وصولنا إلى مستوى قياسي في استهلاك الماء يبعث على القلق. وحسب ذلك التصريح الذي نشرته وكالة الأنباء الرسمية فقد وصل استهلاك الماء (في المنازل) إلى ثمانية ملايين متر مكعب يومياً. وبقسمة ذلك على عدد سكان المملكة البالغ نحو ثلاثين مليوناً، فإن معدّل الاستهلاك اليومي للفرد قد تجاوز (265) لتراً.
ومع أنه يبدو أن تصريحات الوزير قد أُسيء فهمها في بعض وسائل الإعلام، إلا أن من الواضح أنه يتحدث عن وصول السعودية إلى معدل مخيف من استخدام الماء في المنازل، حيث يُهدر بمعدل يبلغ نحو ضعف المعدل العالمي.
وبحسب الإحصاءات الرسمية، فإن هذا الهدر في ارتفاع مستمر، إذ يزداد سنوياً بمعدل (7.5) بالمئة، أي ثلاثة أضعاف معدل النمو الطبيعي للسكان.
وهذا الوضع مُقلق في أي ظرف، ولكن عندما نُدرك أن معظم ما تستهلكه منازلنا (نحو 60 بالمئة) يأتي من مياه البحر المحلاّة، فإن الأمر يقارب المأساة، نظراً إلى التكلفة العالية لتحلية مياه البحر، مالياً وبيئياً. أما بقية الاستهلاك (40 بالمئة) فتأتي من المياه الجوفية التي تُستنزف بمعدلات غير صحية تتجاوز قدرتها على الاستمرار.
ونظراً إلى محدودية كمية المياه الجوفية والسطحية، فإن الطلب يزداد على التحلية، حيث يبلغ معدل نمو استخدامها نحو (15) بالمئة سنوياً، أو ستة أضعاف النمو الطبيعي للسكان.
ولكن تحلية الماء مكلفة ولا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. ولننظر إلى التكلفة الاقتصادية وحدها. حيث يقدر البعض التكلفة المباشرة للمتر المكعب من الماء المحلاة بنحو دولار، ولكن التكلفة الحقيقية أعلى من ذلك بكثير إذا أخذنا بالاعتبار الدعم الحكومي، وما تستهلكه من الطاقة، إذ يبلغ معدل استهلاك الطاقة في تحلية الماء ثمانية أضعاف استهلاك الطاقة في مشاريع الماء الأخرى، في المعدل. وفي المملكة تستخدم تحلية الماء نحو (15) بالمئة من إجمالي استهلاك الطاقة، وتحصل عليها بأسعار رمزية مقارنة بالأسعار العالمية للطاقة.
ولذلك فإننا لو حسبنا التكلفة الإجمالية لتحلية الماء، فضلاً عن التكلفة البيئية، فإن الوضع غير قابل للاستدامة بمعدلات الاستهلاك الحالية.
والمملكة العربية السعودية هي أكبر دول العالم في تحلية الماء، إذ تُنتج نحو (18) بالمئة من إجمالي الإنتاج العالمي من المياه المحلاة، وقد بنت نحو ثلاثين معمل تحلية تزود مدنها بالماء في شبكة ضخمة من الأنابيب يتجاوز طولها (5000) كليومتر.
ولكن ذلك لا يكفي لمواجهة الطلب المستقبلي بالمعدلات التي أشرتُ إليها، فهناك خطط لمشاريع المياه تتجاوز قيمتها (70) مليار دولار، ومضاعفة الطاقة الإنتاجية لمعامل التحلية، خلال العقد القادم.
لماذا نستمر في هدر المياه العذبة على الرغم من شُحّها في جزيرتنا، وعلى الرغم من التكلفة العالية للتحلية التي يمكن توجيهها إلى مرافق أخرى تفيد المواطن؟
انظر معي إلى الأسباب التالية:
أولاً: مع أن تحلية المياه مرتفعة التكلفة، إلاّ أنها توزع على المنازل بأسعار رمزية نسبياً، تُخفي تكلفتها الحقيقية، ولا تدفعنا إلى التفكير في الحفاظ عليها. ومع أن وزارة الماء والكهرباء توزع بعض أدوات المحافظة على المياه في المنازل، إلا أن استخدامها الفعلي محدود، لأن المردود غير واضح للمستهلك.
ثانياً: هناك وعي محدود بقيمة الماء المحلاة وطرق المحافظة عليها، لدى المواطنين، ووعي أقل لدى المقيمين والعاملين في منازلنا، نظراً إلى أنهم يأتون من بلاد حباها الله بمصادر وفيرة للمياه ولا تحتاج إلى تحليتها من مياه البحر.
ثالثاً: عدم كفاءة طاقة شبكات توزيع الماء، فبعضها قديم وبحاجة ماسة للإصلاح أو التغيير.
رابعاً: تسرّبات شبكة التوزيع، التي تصل إلى نحو النصف في بعض المناطق. وقد أدت الطريقة التي مُددت فيها الأنابيب إلى صعوبة الوصول إلى أماكن التسرب، لأنها مدفونة تحت التراب بدلا من وضعها في أنفاق. ولعلك لاحظت أن اكتشاف تسرب الماء وإصلاح أنابيب الماء يستغرق في بعض الأحيان أسابيع طويلة.
فما العمل؟ قياساً على ما تقوم به دول أخرى تواجه نقصاً في الماء، سواء كان دائماً أو موسمياً، فإن أفضل الطرق للحد من الاستهلاك تتمثل في رفع مستوى الوعي بالمشكلة لدى المواطنين والمقيمين ومساعدتهم على حلها.
وهناك بالفعل بعض الجهود التي تُبذل لدينا في المدارس ووسائل الإعلام لنشر الوعي، ولكن الرسالة لم تصل إلى المستهدفين منها. فمن القليل النادر أن تجد الآباء والأمهات، فضلاً عن العاملين في المنازل، والأطفال، واعين بأهمية المحافظة على الماء بما يكفي. فما زالت طريقتنا المفضلة في تنظيف منازلنا، وسياراتنا، والعناية بحدائقنا هي إغراقها بالماء المحلاة.
وبعد نشر الوعي، نحتاج إلى مواصفات أكثر دقة للأدوات الصحية، تساعد في المحافظة على الماء، ومن المفيد في بداية الأمر مساعدة المستهلكين مالياً على استخدام الأدوات المطابقة لتلك المواصفات لتشجيعهم على استخدامها بدلاً من الأدوات الحالية. وسيكون هذا الدعم مبرراً اقتصادياً، نظراً إلى ما سيؤدّي إليه من توفير في استخدام الماء والطاقة.
ولكن وسائل المحافظة على الماء لن تنجح بالشكل المطلوب دون مواجهة مشكلة الأسعار، التي يجب أن تعكس التكلفة الحقيقية للمياه المحلاة، ودون تحديث شبكة توزيع الماء ووقف التسربات التي تؤدي إلى رفع التكلفة.