النداء للاستقلال الفكري ليس من باب 'الترف' المعرفي، بل هو حاجة إنسانية وقيمة شرعية، حتى يكون الإنسان قائماً في تصرفاته على ما يعتقد هو أنه الحق لا ما يعتقده غيره
لم ينعم الله بنعمة أعظم من العقل الذي هو مناط التكليف، وهو الذي يعقل الإنسان عن الفعل القبيح ويدفعه لفعل الجميل، وبه يستطيع الإنسان أن يميز بين الحق والباطل والخطأ والصواب، وعليه يقوم سوق النقد والتفريق بين المسائل والأفكار وتمييز صحيحها من سقيمها، وعلى عاتقه قامت الحضارة الإنسانية، وبه فهمت دعوة الأنبياء وأثبتت نبوتهم، وتوصل الناس من خلال العقل إلى اكتشاف نواميس الكون وسننه والذي أصبح سبباً في نماء حضارتهم وتطور مدنيتهم وسببا لرفاههم في الحياة، فحتى الفلاسفة وإن كانوا قد ضلوا عن سواء السبيل في كثير من أفكارهم لأنهم لم يهتدوا بنور الوحي إلا أنهم كانوا عقلاء أقوامهم، حتى قال ابن تيمية رحمه الله: (لولا الأنبياء لكان الفلاسفة أعقل الناس).
وقد جاءت الآيات الكثيرة في القرآن لحث الناس على التعقل والتفكر وإعمال هذه القيمة الإنسانية في تلمس طريق الصواب وأنه إذا عطل العقل عن العمل ضل الناس عن سواء الصراط، (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاالعالمون).
إلا أن سياجات كثيرة تحول بين المرء وبين أعمال العقل بصورة صحيحة توصله إلى الهداية والحق والصواب، وهذه السياجات تتسلل إلى الإنسان بلا وعي فتعمي عقله عن الطريق الصحيح، منها ما يكون آت عن طريق الإلف والتعود، فهو قد عاش في بيئة محدودة الأفكار والتصورات، يرى العالم من خلالها، ويظن أن أسرار الكون والإنسان والحياة هي في حالتها المعهودة، ولا يبصر كم هو متحجر التفكير والتعقل إلا حين يخرج من إطار هذه البيئة لينظر إلى العوالم الأخرى التي تفتح له سبلاً جديدة من الهدايات والأفكار والرؤى التي لم تخطر على باله في سابق أيامه.
ومن تلك السياجات التي تحجب العقل عن التفكير التحزب لفئة أو جماعة أو طائفة، يرى فيها نهاية الأفكار وبدايتها، قد نما عظمه وفكره وقلبه في إطارها، وتشربت أفكارها سمعه وقلبه، فأحاطت عقله بسياج سميك يحتاج إلى عزيمة ووقت وجهد حتى يستطيع تخطي سماكته لينفذ إلى الحقائق الكثيرة بعيداً عن ذلك الإطار الذي ضرب عليه من حيث يعلم ولا يعلم، ولأن طبيعة الحركات الجماهيرية قائمة على الاستقطاب فإنها دائماً تحول بين المستقطب وبين الأفكار الأخرى وخاصة المعارضة لفكرة الجماعة ولحزب، بل وتتعمد تشويه الأشخاص والأفكار التي لا تتوافق معها في تفكيرها، فيصبح الفرد أسيراً لهذه الأفكار المؤطرة التي عفى عليها الزمن ولا يزال الأتباع ينظرون إليها نظر الإكبار والإجلال.
النداء للاستقلال الفكري ليس من باب الترف المعرفي، بل هو حاجة إنسانية وقيمة شرعية، حتى يكون الإنسان قائماً في تصرفاته على ما يعتقد هو أنه الحق لا ما يعتقده غيره، فالاستقلال ليس شعاراً استهلاكياً لا قيمة له، بل هو ممارسة فكرية ومعرفية وعقلية تجعل الإنسان لا يقدم على فكرة إلا وهو قد هضمها ونظر في أبعادها وقارن بينها وبين معارضيها حتى يتبناها عن قناعة راسخة.
كما أن الاستقلال ليس دعوى يتميز فيها الفرد عمن حوله ليحقق له موقعاً متفرداً، بل هو مسؤولية تجعل الفرد المستقل له رأيه الخاص في الأحداث والأفكار بعيداً عن سياسات العويل الفكري والهياج الجماهيري، وهو بهذه الصورة سيجد السبيل صعباً والهجمة شرسة، لأن الناس قد تعودت على التشاكل في الآراء وخاصة في الأحداث، أو تبعة القادة الفكريين والسياسيين والحركيين، بل هم ينتصرون لأفكار قادتهم أشد من انتصارهم لأفكارهم الخاصة، وينظرون إلى من يخالفهم في سبيلهم بأنه عدو لدود تحول إليه المعارك والهجمات، وهنا يجد المستقل في تفكيره غربة في جو الشحن الفكري والاستقطاب تجاه رأي في حدث أو رأي.
المستقل في هذه الأجواء سيجد نفسه وحيداً في خضم الأحداث، لن يحصل ما يحصله غيره من الدوغمائيين الأتباع بالآلاف، والحضور القوي، لكنه في نفس اللحظة يشعر بإنسانيته ويشمخ بها، لأن قمة التحرر أن يقول الإنسان ما يعتقد، فهو يشفق في نفس اللحظة على أولئك الذين يدارون بالتحكم عن بعد، وكأنهم مبرمجون إلكترونياً، فهو لم يسلم عقله لأحد، وليس متحيزاً لطرف على طرف على طول الخط كما يفعل المغلقون أو المتحزبون مسلوبو الإرادة والتفكير.
هذه القيمة الكبيرة ليست جهداً ذاتياً يستحصله الإنسان من خلال وعيه الخاص دائماَ، بل هي صناعة تربوية ومناهجية تحتاج إلى تطوير المناهج لنقل العملية التعليمية من الحشو المعرفي إلى التربية على مناهج التفكير وإعطاء الأجيال مفاتيح العلم التي توصله إلى تلمس المعارف والأفكار بعيداً عن التأثيرات التي تضرب عليه، وقد تدفعه هذه المناهج المعطلة للعقل ليكون لقمة سائغة لأصحاب الأفكار الهدامة والمتطرفة التي تحرص على استقطاب من لا يمكنه التفكر والتدبر ويسير على ما يشتهون حتى يقع الفأس بالرأس.