ماذا تبقى في ذاكرتك من ذكريات الطفولة حول رمضان؟. تلقيت سؤال المذيعة الفضائية، فجفلت
ماذا تبقى في ذاكرتك من ذكريات الطفولة حول رمضان؟. تلقيت سؤال المذيعة الفضائية، فجفلت، وكأنني أعي أن لي ذاكرة فعلا، تحتفظ بصور طفولة توازعتها (القريتان) وما زالت منطبعة في ذاكرتي عن رمضان، مشهد ماء أو لأقل مشاهد ماء زمزم. حين كانت تفيض شوارع وأزقة وحارات مكة، ببراميل الأسبلة لهذا الماء المبارك.
أتذكر كنا ننطلق صائحين على بعضنا في منتهى الابتهاج (هيا يا عيال نزمزم؟)، بمعنى أن نحمل جرارا على قدر طاقة أحجامنا الصغيرة، ونشق الوقت بها. جرار أيضا وسمها زمزم لتكون (زمزمية). كانت جرارا تشبهنا. كان وقتا مبرأ من وخز الخيبات، في طقس موشى بشطحات المكان، وكان مألوفا أن ترى (ضحى) أطفالا يتراكضون بجرارهم المتعددة الألوان في حارات وشوارع مكة في مشهد كرنفالي بديع أخاله تقاصى كثيرا، ولم يتوفر بديله، نتقافز كأرانب برية وبينها هررة مشاكسة. نتصايح، ونتشاتم، نغرق في اللعنات، ونتجادل، ونتضاحك، نهتك الأستار، نطوي الفلا، طي غيمات لا ترتعش، ونغني للحياة وبراءتها.
كنا نمضي صوب الحرم لجلب ماء زمزم لبيوتنا، إذ كان يسود عرف قد يصل حد الاعتقاد بأن إفطار رمضان لا يكتمل إن لم تكن (الشبّاعة) متصدرة سفرة المائدة. كنا ننتظر لحظة (الزمزمة) بشوق بالغ. فنمضي متجاهلين كل (براميل) السبيل التي وضعها أهل الخير في كل زقاق بين منعطف ومنعطف، طمعا في الأجر، وشكل بهي من أشكال الحياة المدنية في فنون المبادرة للأعمال الخيرية، التي كانت متجذرة في المجتمع المكي الذي كان متجانسا متراحما عطوفا .. نمضي مغترين بطفولتنا وقدرتنا على المشي حتى أقصى الحلم، نسابق الخطى وحمام الحرم يهدل ساكنا من فوقنا، نترك مواضع الأسبلة تلك للبنات والنساء وكبار السن من الرجال. لا (يكيّفنا) إلا الوقوف أمام بئر زمزم، وحشر أجسادنا الصغيرة بين الزحام، ونضح الماء علينا من دلاء فاتنة تدورها سواعد مدربة جدا وخاشعة، لتبللنا البركة من جهة، ولنقضي على لفحة السموم من جهة ثانية، ولمآرب أخرى ربما أوضحها لحس قطرات من الماء المبارك في اطمئنان طفولي عميق بأنها لا تفسد الصوم، حينها يصير الجسد ماءً، وأزعم أن طفولتنا ميزتها (الزمزمة)، ومن عاشها وكونت ضلوعه تلك القطرات لا أظن أحلامه قادرة على التبخر. نحن جيل التحولات الفظيعة التي أودت بالمشاعر، ولم يتبق لنا سوى الذكريات، نلوذ بها، ونبتسم، لما جرى.