التعريف بالرواد السعوديين يزرع الأمل في شبابنا الذي يتطلع إلى قدوة يفتخر بها من بيئته وتاريخه القريب، فيدرس سيرهم، ويتتبع خطاهم لعله يضع لنفسه حلما ليكون مبدعا مثل أحدهم
كثيرا ما تدور عندنا أحاديث المربين وأولئك المهتمين بغرس الوطنية في نفوس الناشئة والشباب، عن أفضل طريقة لربط الشاب بوطنه وتاريخه، بحيث تحفزه على أن يبذل جل طاقته لأجل أن يسهم هو بدوره في إكمال المسيرة، وعن الوسائل التي يجب اتباعها لتحقيق ذلك. فمعظم الجهود المبذولة حتى الآن من قبل الوزارات المعنية والجهات الإعلامية، تكاد تنحصر في استحضار البعد التاريخي، بشقه السياسي على الأرجح لا سيما فيما يتعلق بتاريخ نشوء المملكة، مع مرور سريع يسجل الإنجازات التي تمت في عهد كل ملك من ملوكها السابقين – رحمهم الله أجمعين - لكن يكاد يغيب من هم وراء هذه الإنجازات.
فالملك هو القائد الأعلى للفريق الذي يصنع هذه الإنجازات، وهو يختار أفراد فريقه بعناية فائقة، ليكونوا من ينفذ هذه الإنجازات ويشرف على اكتمالها على أرض الواقع، مسلحين بدعم الدولة وثقة القيادة. وبالتالي فكان لزاما حتى نفهم تاريخ حقبة ما، أن ننظر ليس فقط للمشهد العام الذي يؤرخ لفترة الحكم المعنية، وإنما أيضا للتفاصيل الدقيقة التي تكون هذا المشهد، والتي يظهر فيها ثلة من الرجال المخلصين، الذين بذلوا الكثير لهذا الوطن. خاصة المتميزين منهم، ممن كانت لهم نظرة ثاقبة، وبصمات تاريخية في مجالهم تجاوزت حدود الوطن بل والمنطقة إلى العالم أحيانا. فلم يكد هؤلاء الرجال يغيبون عن ذاكرة مجتمعنا؟
كان هذا السؤال يلح في ذهني وأنا أطالع كتابا عن سيرة الراحل عبدالله الطريقي، أول وزير للنفط في المملكة العربية السعودية، ومن الذين أسهموا في إنشاء منظمة الدول المصدرة للنفط (الأوبك)، والتي لا تزال تقوم بدور لا يستهان به للدفاع عن مصالح هذه الدول، ومعظمها من دول العالم الثالث، في وجه الدول المستهلكة لها، ومعظمها من دول العالم الأول. هذا الرجل على قصر مدة وزارته، إلا أنه ترك بصمة لا تنسى على صناعة النفط في العالم، سواء عبر مناصبه التي تقلدها في بلادها، أو عبر كتاباته ومحاضراته وتجاربه كمستشار في عدد من الدول العربية بعد ذلك. ومع هذا أكاد أجزم بأنه ليست فقط سيرة هذا الرجل، بل حتى اسمه، مجهولين بالنسبة لجل المواطنين. لا أتحدث عن أبناء هذا الجيل الجديد فقط، بل وعن أجيال سابقة، ممن لم يعاصروا حقبة الخمسينيات والستينيات الميلادية. وهو للأسف جزء آخر من جهلنا شبه التام بكل ما يتعلق بالقطاع النفطي في بلادنا، تاريخا أو حاضرا، مع أنه عصب حياة هذه البلاد.
وليس الشيخ الطريقي فريدا في حجم إنجازاته، ولا في عدم تبوئه المكانة اللائقة في الذاكرة الشعبية، فبعد عشر سنوات أو عشرين سنة، ما لم يتغير تعاطينا مع الرواد، سيكون هناك جيل ربما لن يسمع عن الدكتور غازي القصيبي! وقد يتعرف عليه عن طريق إنتاج الرجل الأدبي رواية وشعرا ونثرا ومقالة، والذي لا فضل لأحد سواه فيه، ومن ثم يحثه فضوله ليبحث في تاريخ المؤلف، ليتفاجأ بأنه كان شغل كرسي الوزارة في أربع وزارت: الكهرباء، الصحة، المياه والعمل، وتقلد منصب السفير أيضا في دولتين: البحرين والمملكة المتحدة (مع جمهورية أيرلندا).
والرواد الذين يستحق أن نتحدث عنهم كثر، ولكن لن يسعهم المقال، ليس فقط للمساحة، وإنما أيضا هذا الشح في ما نعرفه عنهم، لكن سأحاول المرور على بعض الأسماء على عجالة. ففي مجال حيوي كوزارة الخارجية، نجد اسما لشخصية لامعة مثل الشيخ عمر السقاف، باعتباره كان وزيرا للشؤون الخارجية في حقبة تاريخية مهمة، في عهد رجل بوزن الفيصل، شهدت أحداثا زلزلت المنطقة ولا تزال آثارها باقية إلى اليوم، بما فيها انتكاسة العرب المؤلمة في حرب 67، ووصولا لنصر أكتوبر ودور المملكة التاريخي في قضية النفط.
كما يحضر اسم الشيخ محمد سرور الصبان، ذلك الرجل الذي يجمع معاصروه أنه من رواد النهضة ليست في وزارته الاقتصاد والمالية فحسب، وإنما أيضا في المجال الأدبي والثقافي، بالإضافة إلى المجال الخيري والتطوعي. ويبرز اسم الشيخ عبدالله بلخير، كواحد من الرواد في عهد الملك المؤسس – رحمهما الله - فهذا الرجل كان المترجم الرئيسي للملك عبدالعزيز، وهو من تولى الترجمة بين جلالته وبين الرئيس الأميركي الشهير روزفلت في اللقاء الشهير على ظهر الباخرة. وكذلك في لقائه مع رئيس الوزراء البريطاني الأشهر تشرشل إبان الحرب العالمية الثانية. وكان يعد وزير الإعلام في عهد الملك سعود، حيث أنشأ، بطلب من جلالته، مديرية للإذاعة والصحافة والنشر، كما كان وزيرا مفوضا بعد ذلك، وهو في الأصل أيضا أديب وشاعر ومؤلف، فرجال تلك الحقبة، كانوا غالبا من أهل الفكر والقلم والعلم.
تضيق المساحة كما تقدم عن ذكر كل الرواد الذين أسهموا، تحت قيادة ملوكهم، في تعمير هذا الوطن الذي لا نزال نتفيأ ظلال خيراته، لكن ما يمكن الخلوص إليه، هو أن النهايات لم تأت من فراغ، بل سبقتها بدايات، وما أصعب البدايات، حين تبدأ كل شيء من العدم، فتستحدث الأنظمة وتسن القوانين، وتشق الطرق، وترسم الدعائم، وتخوض معارك الوعي والتغيير، وخلف هذه البدايات شخصيات طموحة، لديها فكر ورؤية وهدف وطني نبيل. فضرورة معرفة قصص نجاحهم لا تقف خلفها أهداف عاطفية صرفة، لجهة رد الجميل لهم، مع أن هذا أبسط حقوقهم، فالذكر للإنسان بعد موته عمر ثان، ولكن لأن فيها من العبر والدروس التي يمكن أن يستفيد منها الإداريون اليوم من أصغرهم وحتى الوزير، ليدركوا الفرق بين الإداري الذي يعمل ليسير الأمور فقط وبين ذلك الذي يتعامل مع الإدارة والتخطيط بريشة فنان، وعقل مفكر، وقلب أسد. ومن حسنات الدكتور القصيبي أنه ترك لنا مذكراته الجميلة (حياة في الإدارة) فوثق لتلك الفترة التاريخية المهمة.
التعريف بهؤلاء الرواد يزرع الأمل في جيل من الشباب السعودي الذي يتطلع إلى وجود قدوة يفتخر بها من بيئته وتاريخه القريب، فيدرس سيرهم، ويتتبع خطاهم، لعله يضع لنفسه حلما، بأن يكون هو أيضا - ذات يوم - رائدا مبدعا يقود بلاده للمعالي، ويخلد اسمه على لوحة الشرف الوطنية.