منذ ثورة 25 يناير اكتسبت القوى الثورية المدنية خبرات سياسية وتنظيمية هائلة، فأتقنوا الحشد وأجادوا تقدير المواقف وحساب التوازنات، وبالتالي فعلى كافة القوى المدنية أن تتكاتف، وتنحي خلافاتها

لم يدرك الإخوان أنهم أهدروا فرصة تاريخية لأسباب يعرفها الجميع، سوى أنصار الجماعة الذين يتبنون مواقف قادتهم دون تدبر ولا تفكير، ولعل أخطر أسباب سقوط نظامي المخلوع والمعزول هو الصراع داخل دائرة صناعة القرار في الحالتين، وتهميش القاعدة العريضة.
ففي أيام مبارك الأخيرة اشتعل الصراع داخل القصر بين الذين أصطلح على تسميتهم بالحرس القديم من رجال مبارك الأب، والدائرة التي كانت تحيط بنجله جمال حتى هدم السقف على النظام وتداعت أركانه بأسرع من كل التوقعات.
وخلال العام الذي حكم فيه محمد مرسي البلاد سُربت معلومات عن صراعات مكتومة داخل معمل صناعة القرار، وهو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين، بل وفسر سر تخبط قرارات مرسي وارتباك سلوكه السياسي، بأنه حدث بفعل فاعل، وهو الرجل القوي بالتنظيم خيرت الشاطر، مهندس المخططات ولاعب الكواليس الذي كان في نفسه أمر ما، فنحن في نهاية المطاف بشر، فكيف يخطط وينفق ويحشد ويتكبد كل هذه المشاق، ليأتي آخر ويحصده مع أنه لم يكن يوما من صقور الجماعة، بل كانت جل مؤهلاته تنحصر في السمع والطاعة، ويفتقد الكاريزما، ويفتقر للخيال السياسي.
قضي الأمر.. جفت الأقلام وطويت الصحف، ولن تعود عقارب الساعة في مصر للخلف، هذا ما يدركه من يعرفون المؤسسة العسكرية المصرية، التي أوصدت أبوابها أمام جماعات الإسلام السياسي، خاصة بعد اغتيال السادات، إذ كانت تدقق في أسرة الطالب المرشح للكليات العسكرية، لتتحقق من عدم انتماء أي من أقاربه لهذه التنظيمات، وبالتالي يجهل هذا الفصيل كود الجيش المصري، فهذه المؤسسة منذ عهد محمد علي حتى اليوم تسير بموازاة الدولة العميقة، وهي المؤسسات السيادية كأجهزة الأمن والمخابرات والدبلوماسية والقضائية.
فشل مرسي ومن كانوا ينصحونه أو يوجهونه في التناغم مع هذه المؤسسات، بل ناصبوها العداء صراحة متصورين أنهم باستقطاب وزير أو رئيس أو مدير لهذه المؤسسة أو تلك، فإنه سيقدم فروض الولاء والطاعة لمن عينوه، وفاتهم أن تلك المؤسسات أقوى من قادتها، إذ رسخت فيها تقاليد وأعراف، تجبر قادتها على الإنصات بعناية لقادة الصفين الأول والثاني، فضلا عن القاعدة العريضة، وإلا سيجد نفسه يمضي عكس المنظومة، التي يمكنها أن تهمشه أو حتى تلفظه.
يتخيل الإخوان أنه بوسعهم الضغط الشعبي، والتلويح بالعنف والفوضى، ولا يدركون أن هناك لدى الجيش والأمن خططا لكافة الاحتمالات، وأن ثمن التورط في العنف سيكلفهم وجودهم، فبعد أن خسروا السلطة، عليهم أن يفكروا بحكمة، ويضعوا نصب عيونهم مخاطر وجودهم، ولن أتحدث عن مصالح مصر الاستراتيجية التي يرونها بمنظور أممي، يعد الوطن مجرد سكن، والوطنية وثنية، كما تحدث عنه سيدهم وقطبهم في معالمه.
الأمر الأكثر إلحاحا الآن ألا ننظر للخلف، فقد طويت صفحاته، ويكفينا استلهام العبرة فحسب، لكن المعضلة هي التوافق بعدما بلغ الانقسام مداه، فلم تكن مصر بحاجة لمصالحة وطنية كما هي الآن، فهناك ضرورة ملحة للتوافق ولو على الحد الأدنى، وهذا أمر بالغ الصعوبة، فمنذ انهيار حكم الإخوان، والجماعة ترفع سقف مطالبها وتتعمد التصعيد على المسارات التالية:
ـ إشاعة الفوضى والمواجهات الدامية مع الأمن وخصومهم.
ـ شن حرب نفسية ضد الجيش واستنزافه في عمليات إرهابية خاصة في سيناء.
ـ شق الصف الوطني وتعميق الاستقطاب السياسي.
ـ التحرك دوليا بتأليب العالم ضد النظام الجديد.
أخيرا، أحسب أنه ينبغي استلهام آليات حملة تمرد التي نجحت في حشد الناس بفضل وحدة الصف، لأن عناصرها من شتى المشارب، لكن بسقوط مرسي أمسى التوافق صعبا للغاية، لكن هناك أمل فمنذ ثورة 25 يناير اكتسبت القوى الثورية المدنية خبرات سياسية وتنظيمية هائلة، فأتقنوا الحشد وأجادوا تقدير المواقف وحساب التوازنات، وبالتالي فعلى كافة القوى المدنية أن تتكاتف، وتنحي خلافاتها، ويتخلى هواة النجومية عن تضخم الذات، لنتمكن من تحقيق المأمول، وهو بناء دولة تتسع للجميع.