شاكر سليمان شكوري

تعلق قلبي بهذا المسجد، لا لأنه الأقرب إلى سكني، فأنا حريص على صلاة الجمعة ـ خاصة ـ فيه، مهما نأت بي المسافة عنه في أنحاء جدة.
وحقيقة الأمر في هذا التعلق أن هنا شيخاً جليلاً لا يمكن أن يتثاءب المصلون أو يتململوا في حضرة خطبته، لأنه يعالج قضايا الساعة للمسلم بفقه الواقع..لا يسرف في التهديد والوعيد، ولا يوغل في عذابات القبر، ولا يقصر جل خطبته على القيامة وأهوالها، ومثوى الكافرين في النار، وإن كان لا يهمل من ذلك شيئاً، ولكن بالقدر اللائق في سياقه.. هكذا تأتي دائماً خطبة الشيخ سعود السحيمي في مسجد الشكر في جدة.. نورا يقدم للناس فيما يخص حياتهم اليومية، ديناً ودنيا، رأياً مسنداً تطمئن له أفئدة المصلين.
في الجمعة قبل الفائتة لم يتحرج الشيخ من أن يعيد للأذهان خطبة الشيخ العلامة عبدالله بن محمد بن زاحم، يرحمه الله، إمام وخطيب المسجد النبوي (سابقاً)..ألقاها في 17/1/1410هـ، أي قبل أكثر من 24 عاماً، تحت عنوان جواز الانتفاع بصناعات الأعداء غير المحرمة.
وبزعمي أن شيخنا الحاضر أراد أن يسهم بإحياء هذه الخطبة، في مجابهة ظاهرة ما كان يسمى تحريم صنعة الكفار (مطلقاً)، التي لا تزال تظهر في صورة جديدة، تصادر سعي المسلمين للحاق بالعصر، وامتلاك أسباب القوة والمنعة لحماية الدين والأمة، على غرار ما تغذ السير إليه المملكة العربية السعودية. وأصحاب هذا الرأي - مع الأسف الشديد - لا يقدمون للأمة خياراً آخر، إلا أن تقبع في غيابة الجب، فتتكالب على قصعتها الأمم، لا من قلة بل من ضعف وهوان، إذ تفتقر الأمة في تلك العزلة إلى أي من ضمانات البقاء على قيد الحياة.
وقد آثرت أن أوجز للقارئ الكريم خلاصة هذه الخطبة، تعميماً للفائدة:
يقول الشيخ العلامة إن وظيفة الإنسان في هذه الحياة أمران:
الأمر الأول: الإيمان بالله، واتباع منهجه في كل التصورات، وفي كل مرافق الحياة، على ضوء وحيه ورسالاته. وألا ينسى المسلم عدوه إبليس وحزبه وجنوده من بني الإنسان، وأن أعداء الإسلام يبذلون غاية جهدهم لإضلال هذه الأمة عن عقيدتها، التي يعرفون - أكثر من بعضنا - أنها صخرة النجاة، وخط الدفاع، ومصدر القوة للمسلمين. وحين يعجز هؤلاء الأعداء عن محاربة الإسلام بأنفسهم بالقوة، يدسون لها ماكرين، يتخذون منهم جنودا ينخرون في أصل العقيدة من داخل الدار! فيزيفون لهم مناهج وأوضاعا وعبادات ما أنزل الله بها من سلطان، ويقودون من يصغي إليهم للكفر والضلال.. من هنا تحث الخطبة أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تقرر منهج الله في أرضه عملاً وتطبيقاً، وتحذرها من طاعة أهل الكفر، التي تعني الشك في الكتاب والسنة، والرضا بعقيدة هؤلاء الأعداء، والرغبة في منهجهم، عوضاً عن منهج الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
وأما الأمر الثاني في وظيفة الإنسان فرعاية وحماية الدين، والدم، والعرض، والمال. ومع أن هذا الأمر لا يستقيم إلا بالأمر الأول، فلا بأس من الانتفاع بشيء من جهود البشر (مطلقاً) في العلوم البحتة، علماً وتطبيقاً وإنتاجاً، مع ربطها بالمنهج الإسلامي، باعتبارها من تسخير الله مخلوقاته للإنسان، بما ينفع البشر، ويوفر لهم الرعاية والحماية والأمن، ومما يوجب شكر الخالق - جل وعلا - على نعمتي المعرفة والتسخير.
وتصل الخطبة إلى عقدة البشر ومأزق البشرية الآن، بعدما حققوا، بما سخر الله لهم، انتصارات خارقة في الطب والصناعة (خاصة)، لكنهم افتقروا إلى الإيمان بالله، وتصور الوجود وغايته، والهدف من خلق الإنسان، وإدراك ما بعد الحياة، مما أدى بهم إلى الحيرة والضياع، وقيادة العالم إلى متاهات الضلال والكفر والزندقة.. من هنا ينطلق الشيخ إلى دعوة المسلمين للاعتصام بحبل الله، الذي جعل من القبائل المتناحرة أمة متعاطفة ذات إيثار وقوة، ومن العرب المتفرقين في زاوية الأرض دولة لها ميزات وجهت العالم (يوماً) وجهة الخير والعدالة.
ويتساءل الشيخ عما يمكن أن يقدمه المسلمون اليوم للعالم، وقد سبقهم الناس بعبقريات وصناعات وعلوم؟ إلا أن يستعيدوا دورهم القديم في تقديم الإسلام للعالم والترويج له منهجاً وتطبيقاً وملاذاً للحائرين الضائعين في عالم المادة المجرد!
ويختتم الشيخ خطبته مذكراً بأن الله قد خلق الإنسان، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، لتمييز المتضادات، ومنحه القوة المدركة لاختيار الأفضل النافع وترك الضار، وأعانه بالرسالات السماوية تكشف له دلائل الهدى، وتجلو عنه غواش الهوى، فمن استخدم هذه الميزات في تطهير نفسه فقد فاز ورشد، ومن أهملها فقد ضل وخاب. ولقد أعطى الخالق تعالى الإنسان أهلية الاختيار - في حدود إرادة الله ومشيئته - فرفعه وكرمه، وعلى الإنسان أن يشكر خالقه على هذا التكريم والتفضيل، وأن يكون دائماً على صلة بربه في عسره ويسره.. هكذا طوف بنا الشيخ العلامة على لسان شيخنا الحاضر، فلم يدع أمراً إلا وعالجه، فأضاء الطريق أمام الإنسان، ورسم له حقيقة المنهج في سهولة ويسر.. رحم الله شيخنا الراحل، وبارك في مسيرة شيخنا الحاضر، وأكثر من أمثالهما من الهداة المهتدين بشرع الله القويم.