الشباب في هذا العصر لم تعد تستهويهم البرامج القديمة البالية التي ليس لها فائدة سوى صرف الوقت. الشباب يتمتع بالحيوية واتقاد الذهن والاندفاع، وهذه الصفات تتطلب برامج نوعية
تحدثت في مقالة سابقة قريبة عن الشباب والتطوع، وذلك لاستثمار فتوة الشباب وصفاء أذهانهم واتقاد فكرهم واندفاعهم، وتوجيه كل ذلك في أعمال إيجابية تحقق لهم وللوطن إنجازات لها مردودات عديدة وفوائد لا حصر لها..
إن البرامج التي تهدف فقط لصرف وقت الشباب لم تعد تحقق للشباب ما يرجونه ولا للوطن ما يرجوه، بل قد تكون شراً ووبالاً عليهم وعلى الوطن، ذلك أن البرامج التي تهدف فقط لصرف الوقت ـ كما هو الحال الآن ـ تستنزف نشاطهم أولاً، وليس لها مردودات على عقولهم ولا يستفيد الوطن منها، ولهذا فإن فكرة التطوع المنظم الذي ينطلق من مؤسسات حكومية وغير حكومية وتحكمه أنظمة، تماماً مثل ما هو موجود في الدول المتقدمة وشارك فيها الشباب بشكل فاعل بحيث تنطلق منهم وتهدف لخدمتهم وتعود اليهم، تحقق كل ما نتمناه من الشباب وكل ما يتمناه الوطن منهم وكل ما يتمنونه من أنفسهم.. هناك مبررات عديدة الآن في هذا العصر للالتفات للشباب بأفكار مختلفة باختلاف العصر ومتقدمة بتقدم العصر، فلم تعد البرامج الشبابية البالية مفيدة لعصرنا الحاضر. والمبرر الأساس الآن هو وضع الشباب موضع التحديات الإيجابية وتجنيبهم التحديات السلبية. والتحديات الإيجابية المقصودة هي إرادة التغيير نحو الأفضل، وإطلاق ملكات الشباب نحو التغيير الذي يؤدي إلى الارتقاء بالوطن تحت قيادة واعية مستنيرة.. مستثمرين قوة أذهانهم وفتوتهم لتميزهم بحدة الذهن الذي يقود إلى التفكير الناقد النافذ. عند الشباب قدرة على التفكير المرن، إضافة لاستعدادهم لمواجهة تحديات التغيير الإيجابية، والعزم والإرادة في التغيير يتضحان في البذل.
وفيما يتعلق بموضوعنا اليوم الخاص بالعمل التطوعي فإن لدى الشباب توجها واستعدادا نحوالعمل التطوعي بدون عائد مادي أو معيشي، ويتعلق الشباب بالمثل ويؤمنون ويبذلون الوقت والجهد والنفس عند الحاجة. هذه خصائص طبيعية إذا هيأ لها المجتمع البيئة الصالحة ستعمل العمل الصحيح. والمقصود هنا أن تكون ثقافة تعمل تحت تنظيم. وبمراجعة بعض تجارب العمل التطوعي نجد أن الشباب في أوروبا قبيل الحرب العالمية الثانية كانوا يتركون عملهم وعوائلهم ويلتحقون بالأعمال التطوعية، وجاء الشباب للاستعداد للموت في سبيل مبدئهم لمحاربة الفاشية والدكتاتورية وحُسِب لأوروبا ذلك، وكان موضع فخر لها، لأنه يكشف حقبة من تاريخها تعبر عن صورة عظيمة من البذل والتطوع.
هناك أمثلة كبيرة وكثيرة وعديدة عبر التاريخ. والتاريخ القريب كشف أمراً في غاية الأهمية، وهو أنه عندما تستثمر طاقات الشباب وتوجه في العمل التطوعي تكون النتائج مذهلة حتى ولو بلغ الأمر التضحية بأرواحهم، فهم قادرون على العطاء، وقادرون على تحمل البرد والحر وأقسى ظروف الحياة، والشباب لديهم خاصية التعلق بالقيم والمثل.
إمكانات ثقافاتنا هائلة.. الإسلام لديه من الإمكانات ما يمكن أن يصنع لنا مكانة، ليس لتقدمنا فقط، ولكن لتقدم البشرية أيضاً كلها.. النضج والعدل والمساواة والحرية.. وهذه أيضاً موجودة في العالم الغربي، إلا أن تميزنا عن العالم الغربي أنه بالرغم من تقدمه الرقمي التكنولوجي إلا أنه أوجد أزمات تتعلق بالروح، لأنه يفقد الإيمان المؤسَس على العقل واستبدله بإيمان مبني على الخرافات، وأزمة في السياسة التي بناها على المصالح، وأزمة في الاقتصاد التي فشل فيها الجمع بين المصلحة المجتمعية والمصلحة الفردية، وبناها على المصلحة الأخيرة. ولا مجال للتوسع في ذلك لضيق المساحة والخروج عن السياق، إلا أن الواقع يفرض علينا الحديث عن حسنات للحضارة الغربية تفوقت فيها على الحضارة الإسلامية، وهي أولى من حضارة الغرب في تبني أفضل برامج عمل الشباب التطوعي، ببساطة لأن الحقيقة هي أن الإسلام أثبت للتاريخ وسيثبت المحاكمة المنطقية، ومن ذلك التفوق التكنولوجي والتفوق في العمل التطوعي. فمن حسنات الثقافة المعاصرة والثقافة الغربية أو الحضارة الغربية في المجال التطوعي اهتمامها بالجانب الإنساني واهتمامها بالتطوع. تاريخنا الإسلامي يحدثنا أن الحضارة الإسلامية كانت مبنية على العمل التطوعي، فالدولة كانت تهتم بالأمن والقضاء فقط، أما الأمور المجتمعية من المعابد والمدارس والمكتبات وغيرها فكانت مبنية على العمل التطوعي. وهناك اختلاف جوهري عن العالم الغربي يجب استثماره في العالم الإسلامي وبلادنا أكبر ممثلة له. وهذا العامل هو أن البذل والعطاء والتطوع فطرة فطر الله المسلم عليها. ومن السهل جداً أن يستجيب المرء لما فطر عليه. الحضارة الإسلامية حضارة إنسانية. والمسلم يحب البذل ويحب العطاء.. وهنا نقف ونتأمل ثم نقرر أن أوجب الواجبات أن نعمل كل ما في وسعنا ليعرف الشباب حقيقة حضارته، وأن ينتبه لها ويقدر قيمتها وقيمة القدرات التي يختزنها وفيما يجب أن يبذلها. يجب أن نستفيد من الحضارة الغربية، لكن لا ننبهر بها. لدينا من المثل والمبادئ ما يمكننا استثماره لإطلاق قدرات الشباب واستثمار فتوتهم وتوظيف فطرتهم لخدمة بلادهم وأمتهم بخطط مدروسة وإشراف واع وعمل منظم. الشباب هم الحياة، وهم المستقبل، وهم الأمل بعد الله، وحقهم علينا أن نبين لهم أن فطرتهم تقتضي وجود ثقافة التطوع التي يجب أن تكون لنا الريادة فيها ونبز بذلك أي حضارة أخرى وأي مجتمع آخر. ولا يمكن بأي حال، بل ليس من المنطق أن يكون شبانا مفطورين على العطاء والبذل والعمل التطوعي ثم يتفوق مجتمع آخر علينا. يجب ألا يستمر ذلك. وأعود للقول إن هناك تجارب مميزة في بعض مناطقنا، وخصوصاً ما بدأته منطقة مكة المكرمة من جهود في هذا الاتجاه، نأمل أن تحتضن الجهات المعنية هذه الجهود، وتعمم وتوسع هذه الجهود في طول بلادنا وعرضها، بعيداً عن الروتين القاتل واللجان (طيبة الذكر) التي أصبحت عقبة أمام كل عمل نوعي وفكرة جادة. العمل التطوعي فطرة، والشباب مجبولون على ما فطروا عليه، وهذا أمر يجعل المهمة يسيرة وسريعة التطبيق ليُرى أثرها على أرض الواقع.. شباب يعتز بهم الوطن ويعتزون به ويعملون من أجله.
وخلاصة القول أن الشباب في هذا العصر لم تعد تستهويهم البرامج القديمة البالية التي ليس لها فائدة سوى صرف الوقت. الشباب يتمتع بالحيوية واتقاد الذهن والاندفاع، وهذه الصفات تتطلب برامج نوعية أرى أن في التطوع المنظم الذي يغطي كل المجالات ما يحقق تلك البرامج. تلك البرامج التي تشارك فيها قطاعات الدولة والقطاع الخاص بأنظمة واضحة المعالم، خالية من البيروقراطية، تجذب الشباب وتحقق لهم ما يريدون بمشاركة فاعلة منهم.