نلاحظ في أيامنا هذه تدني مستوى القراءة في الجيل الجديد، والنفور من الكتاب، فهل نحن مقصرون في غرس حب القراءة في نفوس أبنائنا؟
تقلص الود وغابت الحميمية واجتنب أبناؤنا القراءة وهجر الفرد منا ذلك الصديق الحميم والخل الوفي، فأصبح من المستحيلات الثلاثة! واتجه أغلب الشباب إلى الثقافة الإلكترونية، والله أعلم بمدى مصداقيتها التي لا يدركها الكثير من هواة هذه الثقافة ومتتبعيها. وللكتاب صداقة، وللكتب حميمية، وللكتاب ود خفي يبث عبقا ذا مذاق خاص لمن يفتحه. فلنا أن نتأمل وضع عازف العود لحظة العزف، سنجدة يحتضن العود كالطفل الرضيع، ووضع الكاتب حين يكتب كيف ينحت على الورق وبينهما ذلك الحبل السري القلم، ونتأمل وضع القارئ كيف يحتضن الكتاب لحظة القراءة فتربطه طاقة كونية، طاقة هائلة من البذل والعطاء.. هذه الحميمة لا تتوفر لدى القارئ الإلكتروني بالرغم من تمجيدنا لهذه المنة التي منحها الله لنا من معلومات تطرح بين أيدينا عبر الفضاء الإلكتروني، ولكن الحصول على المعلومات وفتح المكتبات شيء، واحتضان الكتاب للتماهي معه شيء آخر لا يمكن الاستغناء عنه!
ومما نلاحظه في يومنا هذا هو تدني مستوى القراءة في الجيل الجديد، والنفور من الكتاب، بينما كان كثير من الأدباء والكتاب لا ينام الواحد منهم إلا وهو يقرأ كتابا، فهل يحل جيل الثقافة الإلكترونية محل هذا الجيل؟ وهل سيصنعون ثقافة جيل مقبل؟! وهل نحن مقصرون في غرس القراءة في نفوس أبنائنا؟ لم يعد لتربية المطالعة مكان في بيوتنا أو في مدارسنا! وعليه فلا بد من إذكاء هذه الروح في المدارس. ومن العجيب أنه اجتث تدريس الرواية والقصة لدينا، فتدريسهما يعمل على تعلم القراءة.
إن تعلم القراءة لا يقتصر على التعرف على الحروف الأبجدية وطريقة توصيلها ووضع النقط والهمزات وحروف المد، والمرفوع والمنصوب؛ وإنما القراءة شيء آخر. القراءة هي فهم ما يدور بين السطور، وفهم المعاني الكامنة في مستويات المعاني، حيث إن للقراءة ثلاثة مستويات.. مستويات التلقي، (المستوى الأول، وهو ما يطفو على سطح الصفحات، والمستوى الثاني وهو المعاني الكامنة خلف السطور، والمستوى الثالث هو الإحالات لهذه السطور إلى واقع اجتماعي وسياسي وعقائدي ونفسي وتاريخي)، وتتعدد طرق القراءة حسب طرق المداس والمناهج في تناولها. وبهذا نستطيع القول إننا لا نقرأ، لأننا لا نستطيع القراءة! فهل نحن نعرف القراءة وطرقها ومناهجها وتحليل ما يدور فيها؟ بطبيعة الحال لا نجد شعبنا يقرأ، وقد أصدرت بعض الدراسات نتيجة إحصائية عام 2002 أوضحت أن نسبة الأمية الثقافية في الوطن العربي 99% بالرغم من أن أول كلمة نزلت في القرآن الكريم هي (اقرأ).
كنا فيما مضى، كباقي دول العالم، تقرر علينا قصة أو رواية في كل سنة من مراحلنا الدراسة، لكي نتعلم القراءة في كتاب وليس قراءة الحروف ومشتقاتها! من منا تجاوز المستوى الأول في أعماق النص وتشريحه ثم إصدار آرائه ومفاهيمه.. وهذه مسؤولية وزارة التعليم بالدرجة الأولى، فمرحلة التكوين الفكري للشخصية تبنى في المراحل الأولى وأهمها المدرسية. وقد دار حوار بيني وبين مديرة أكبر المدارس في هذه البلاد، وأدركت مدى المرارة في حلقها جراء هذا الاجتثاث، فلماذا اجتث تدريس القصة والرواية من المدارس؟
إن المتخيلة - كما أسماها الفارابي وابن سينا أو لوح النقش عند فرويد أو الحافظة عند ابن رشد أو الإطار المرجعي لدى العديد من علماء وأساتذة علم النفس - ما هي إلا وعاء للتاريخ، والذي تنضح بمقتضاه إبداعاتنا وأعمالنا وأفكارنا وطرق تفكيرنا؛ وكلها تتركز على السنوات الأولى من العمر، فما كان تعليم وتدريس الرواية والقصة في المدارس في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية إلا تمهيدا وإعدادا لشحذ ذائقة الطالب وتوسيع المتخيلة، فالمتخيلة هي مكمن الخيال، وبالتالي تحتاج إلى اتساع الأفق المعرفي، مما يعمل على استدعاء الإلهام والإبداع والابتكار فى جميع مراحل الإنسان منا.
قصة طريفة يرويها عباس محمود العقاد عن تجربته فيقول: كنت أحصل على خمسة قروش في اليوم فأشتري بنصفها رغيفا وبنصفها الآخر كتابا، وأمكث على قراءته؛ إلا أنه يتعذر علي الحصول على هذه القريشات فلا أشتري كتابا جديدا، وعليه فأعيد قراءة الكتاب مرات عديدة، فأكتشف أنني أستفيد من قراءة الكتاب في كل قراءة كقراءتي لكتاب جديد! هذا هو العقاد، وهذه هي تربيته الفكرية، لأنها تأصلت فيه شهوة القراءة، وللقراء شهوة تصقل وتربى في النفس وليست غريزة أو طبعا.
فإلام ترجع هذه القسوة على الكتاب وهذا الصد والهجر؟ حين أقابل أحدا من شبابنا من كلا الجنسين وأسأله: هل تقرأ؟ يسارع بالإجابة بالنفي معللا ذلك بأنه لا يحب القراءة، وتلك كارثة ثقافية تجتاح عقول شبابنا. وحين درست الأسباب وجدت أن من أهمها أنه لا يعرف كيف يقرأ.. جيل لا يعرف يقرأ! في عالم يموج بثقافات تزلزل كيان الدنيا بأسرها، ففي الدول المتقدمة لا ترى إنسانا يستجم في حديقة أو كافيه أو على شاطئ بحر أو قطار إلا وفي يده كتاب، حتى إنه ظهر نوع من الأدب اسمه أدب القطارات، لأن الواحد منهم يقرأ ولا يترك القراءة حتى في القطار. شهية أكولة وحميمية دافئة تجمع القارئ بين ضفتي الكتاب لا يجدها في أي شيء، بينما نرى الفرد لدينا في كل هذه الأماكن وفي الشوارع وفي المجالس أيضا بيدة تاب يفصله عن مجالس الأسرة والقوم والعامة والخاصة، وحين تدقق النظر تجده على الشات، الفايبر، الواتس آب.. ولا شيء غير ذلك.
كنا في البدايات الأولى بأكاديمية الفنون نطالب بقراءة كتاب كل يوم، بمعنى سبعة كتب في الأسبوع، وكنا نعجز ونعتب ونمل ونصرخ، لأنه بالنسبة لنا حمل ثقيل.. إلا أن هناك تدريبا سلكناه وهو ألا تستغرق الصفحة في القراءة أكثر من دقيقة، ثم الصفحة التي تليها، مع عدم الحرص على التركيز على الفهم في بادىء الأمر، وحين ننتهي من الكتاب نغمض أعيننا ونسأل: ماذا تبقى في أذهاننا من هذا الكتاب، ثم نعيد القراءة مرة ثانية للتحليل والتفسير، وبذلك استفدنا سرعة القراءة وسرعة الفهم فأصبحت الصفحة لا تستغرق دقيقة واحدة مع الفهم والذي لم يكن في بداية التدريب. ومن هنا كانت مسؤولية التعلم، فالنجدة يا وزارة التربية والتعليم.