(النقد) مفردة لها وقعها على النفس البشرية على اختلاف دلالتها، فإن جاءت في حقل (المال) كانت لها بشاشة الربح وجهامة الخسارة، وإن امتلأت بها كؤوس (الإبداع) كان لها سكر المدح ومرارة القدح، وأناقة البناء وضراوة الهدم. وفي تضخم الذات الناقدة اليوم على شتى الصعد؛ يحار العاقل أين يجد (الحقيقة)، لأن النقد ذا الوجوه والطعوم المختلفة أصبح في متناول الجميع، لا يتورع في امتطائه كبير ولا صغير (على اتساع هاتين الصفتين)، ويبدو أن هذا صحي إذا أخذناه في سياقاته النياتية البيضاء الأولى، لكن كعادة هذه المفردة (النقد) ذات الوجهين لا تهتم بالصحة إذا شابتها الفئوية والمصالح الشخصية، والحالات المستعصية على المنطق القويم إذا غلفها التعصب لتوجه أو طيف معين أو سلطوية.
والسلطوية هي الفكرة العنجهية للناقد المعاصر بقلب معادلة (تبعية الناقد للمبدع) ليصبح الأخير تابعا للناقد ورؤاه، نشهد تخبطات في الإبداع أحالته إلى كومة من التهويم وظلال سديمية مضللة لا مظللة، حتى تشبثت أوراق الإصدارات ببعضها، محافظة على جدتها، عندما عزف القارئ عن التفريق بينها، متجها نحو فضاءات المشاهدة والقراءات الخفيفة التي تلبي حاجته المعرفية، وتجاري سرعة إيقاع لحظاته. وأي لوم يعلقه المبدع أو الناقد على القارئ وقد عكسا معادلة التبعية، فتخلى الناقد عن دور الوسيط بين المبدع والمتلقي، وصار صخرةً كؤودا في طريق الوصول إلى النص، وهو يتقدم المبدع، أو يتأخر عنه ـ على مضض ـ بنص أشد وعورة. هذا العصف النقدي العارم اليوم بشتى اتجاهاته ومنطلقاته، على هول ما صورته سالفا، لم يمس القارئ بصورة مباشرة، بل كان مساسه الأول بالمبدع الذي أشبهه بمركب في محيط ساكن تهبه العواصف من جهات مختلفة، فتحركه في اتجاهات شتى، لتحول بينه وبين وجهته وتبقيه في تيهٍ بين أقطار الدائرة المصنوعة من تضادات العواصف. فكم من مبدعٍ فقد تركيزه اليوم وتشتت بين الرؤى، حتى تمزقت أوراق تجربته الإبداعية وبعثرتها الرؤى، وانشغل في محاولات تجميعها عن وجهته الأولى، لأنه فقد (الرؤية) أغلى مقومات الإبداع. والرؤية هي ما يبحث عنه القارئ في عمق كل تجربة إبداعية ليستطيع فهم المبدع والانطلاق معه أو ضده. وفي نظري أن الناقد هو (القارئ الأول) أو (القارئ الكبير) الذي يأتي بعد النص مباشرة، ليطلق الحكم على الإبداع، وإن تقدم على النص فلن يكون كذلك، بل سيكون (المتحكم) بالإبداع ولن يحاكمه إلا من وجهة نظر إملاءاته السلطوية التي وافقها المبدع أو حاد عنها، والنتيجة كما نرى من بعض النقاد أن الأحكام مبنية على التوجهات والرؤى على مبدأ (المعية أو الضدية) إن غابت النفعية الفاتنة. فأي قارئ نبحث عنه إن اختلت معادلة الأولية. فكيف ننسب الإبداع لمن وضع الأسفلت وحدوده وأرصفته، إن تجاهلنا من أبدع هندسته قبل أن يكون؟!