من المحتمل أن ينهي العراق مخاضه السياسي، بعد سنوات معدودات، بحزبين رئيسيين أحدهما في الحكم والآخر في المعارضة. وهو المثال الديموقراطي العراقي الجيد، الذي يمكن تقديمه للعالم العربي

-1-
الخطر الوحيد والقلق الوحيد في العراق الآن هو تفاقم الإرهاب؛ إرهاب الفصائل المسلحة وغير المسلحة والتي تحاول عبثا وقف عجلة التقدم والحداثة السياسية بالقنابل، والسيارات المفخخة، والصواريخ، والرسائل التلفزيونية، وبخطب يوم الجمعة، وبتحريض بعض أعضاء مجلس الحكم السابق، وبكل الوسائل التقليدية دون طائل.
فعجلة التقدم والحداثة السياسية العراقية أكبر وأقوى بكثير، وأكثر صلابة من أن (تفرقعها) مثل هذه المتفرقعات التي تشبه الألعاب النارية، العابثة بأروح الأبرياء.
فهل يشعر العراقيون في الداخل، بكل هذه الإنجازات السياسية التي قلما تتمتع بها كثير من الشعوب الأخرى؟
أم أن العراقيين في ظل هذا العبث الأمني، والفوضى الأمنية الحالية التي تشيعها باقي فلول الأنظمة السابقة، وباقي فلول الغربان من العربان الأفغان المرتزقة، تكدرت حياتهم، وحالت مقاولة الحرامية التي تستهدف سرقة البنوك، وقتل الأبرياء، من أبناء الشعب، ورجال الشرطة العراقيين، دون استمتاعهم بهذه الإنجازات السياسية؟
-2-
معظم المعلقين خارج العراق، ينظرون إلى ما تم على الساحة العراقية السياسية من أنه ليس نقلة نوعية سياسية إلى العراق الجديد، ولكنه أقرب إلى الفوضى، والعبث السياسي.
ويقولون إن عشرات الأحزاب التي قامت، ونبتت وتكاثرت تكاثر الفطر، وعشرات الصحف التي صدرت وطلعت علينا ما هي إلا عناوين للفوضى السياسية، التي لا تبشر بمستقبل سياسي منير للعراق الجديد!
وهؤلاء - في واقع الأمر- لم يقرؤوا تاريخ الشعوب التي سعت وتوصلت إلى الحداثة السياسية جيدا. ولم يقرؤوا أيضا تاريخ العراق خلال الثلاثين سنة السوداء التي مرت على العراق في ظل حكم حزب البعث الفاشي، وما تم خلالها من قتل وتدمير ومحق للنخب السياسية وللبنية السياسية العراقية، التي كانت تعتبر من أكثر البنى العربية ثقافة، ووعيا، وحراكا.
فالنخب السياسية العراقية الواعية، قُتلت، وسُجنت، وطُوردت، وطُردت، في الماضي، وقبل 2003 من العراق، وهي اليوم إذ تنفجر هذا الانفجار الحزبي التعددي، وهذا الانفجار الصحفي والإعلامي المثير، فإنما هي تعبر عن مدى الاضطهاد والقمع والمصادرة التي تعرضت لها طيلة ثلاثة عقود سابقة. وهي مرحلة الانتشار التي تسبق مرحلة الاختصار.
-3-
إن العراق بعد 2003، كان يمر بالمرحلة السياسية نفسها التي مرت بها اليابان الجديدة بعد 1945، وبعد انهيار الحكم العسكري الذي جلب لليابان الكوارث السياسية والاقتصادية، والتي مرت بها ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد اندحار النازية الديكتاتورية، والتي مرت بها كوريا الجنوبية بعد 1953، وبعد انتصارها في الحرب مع الشمال.
فهذا التعدد الحزبي غير المسبوق في العراق، هو ما حصل في اليابان بعد 1945، وغداة تطبيق مجموعة من الاستحقاقات الديموقراطية.
فقد تشكلت الأحزاب بالعشرات، ولكن اليابان أنهت، مخاضها السياسي بحزبين رئيسيين هما: الليبرالي الديموقراطي (وهو نتاج ائتلاف الأحزاب غير الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية)، والاشتراكي الديموقراطي، إضافة إلى حزب الكوميتو، والحزب الاشتراكي.
-4-
وهذا التعدد الحزبي غير المسبوق في العراق، هو ما حصل في ألمانيا بعد انهيار الديكتاتورية النازية. فقد تشكلت في ألمانيا عشرات الأحزاب السياسية، بعد أن كان المسموح لحزب نازي واحد، ولكن ألمانيا أنهت مخاضها السياسي بحزبين رئيسيين هما: الحزب الاشتراكي الديموقراطي المتحالف مع الحزب الديموقراطي الحر بقيادة هيلموت شميدت. والحزب الديموقراطي المسيحي بقيادة هيلموت كول.
كما أن هذا التعدد الحزبي غير المسبوق في العراق، هو ما حصل في كوريا الجنوبية بعد انسحاب اليابان منها في 1945، وبعد احتلال دام 35 عاما (1910-1945)، وبعد تخلصها من ربقة النظام الشمولي الكوري الشمالي في 1953. فقد تشكلت في كوريا الجنوبية عشرات الأحزاب السياسية، ولكن كوريا الجنوبية أنهت مخاضها السياسي الحزبي بحزبين رئيسيين هما: حزب العدالة الديموقراطي، والحزب الديموقراطي الكوري.
-5-
ومن المحتمل والمؤمل، أن ينهي العراق مخاضه السياسي، بعد سنوات معدودات، بحزبين رئيسيين أحدهما في الحكم والآخر في المعارضة. وهو المثال الديموقراطي العراقي الجيد، الذي يمكن أن يقدمه العراق للعالم العربي، مفتتحا به الحداثة السياسية في العالم العربي، والذي سيوضح مستقبل العراق السياسي. وسينهي حقبة سوداء من تاريخ العراق، تمثلت في فترة سابقة لعام 2003، بالحكم النازي البعثي، وتمثلت حاليا بحكم حزب الدعوة، الذي حكم العراق 2004 بقيادة إبراهيم الجعفري، ثم حكم العراق منذ 2005 إلى الآن، وربما حتى 2015 بقيادة نوري المالكي.
وبذا، يكون العراق قد خضع لحكم حزب واحد (الدعوة) مدة 11 سنة، وهي مدة قريبة من فترة حكم حزب البعث العراقي. وفي هذه الحالة، فكأن العراق انتقل – سياسيا - من تحت الدلف البعثي، إلى تحت المزراب (حزب الدعوة)، كما يقول المثل العربي.