جرب أن يكون شهر الصوم الفضيل راحة إلزامية من كل ما اعتدت عليه طوال العام من الجداول والارتباطات، وحتى من العادات والتقاليد. جرب أن يكون هذا الشهر الكريم تحويلة فجائية من الأوتوستراد إلى روضة مختلفة أو قمة جبل أو قاع واد لم تألفه ولم تشاهده من قبل، وهنا أتحدث عن المعنى المجازي لطبائع التغيير في حياتك المعتادة. حاول أن يكون شهرك هذا، وحده من بين كل أشهر العام، إجازة فردية للانفراد ولذائذ العزلة. جرب أن تقرأ فيه العناوين من الكتب التي لم تكن خلال العام الطويل من الخيارات، وأن تجادل، ومع الأوراق والكتب وحدها، أكثر الأفكار استفزازا واختلافا مع ثوابتك القرائية. الصوم في إحدى عبره مدخل لتغيير العادة.
حاول في رمضان أن تكون هناك مسافة اجتماعية فيما بينك وبين ما اعتدت عليه من دوائر الاتصال المجتمعي. أن يكون فرصة سانحة للاحتكاك الأقل، وللاتصال في أضيق الحدود. ومثلما تصوم المعدة وتظمأ العروق، وترتاح جوارح الإنسان، فليكن صيامك أيضا سكونا اجتماعيا، في الاختلاط والتشابك واللقاءات والمناسبات.
حاول أن يكون لسانك في الحدود الدنيا من جمل الكلام، وحاول أيضا أن تعكس كل وظائف الأعضاء الحيوية بتحريك ما كان ساكنا خاملا طوال العام، وتسكين ما كان نشطا ولو مرة لشهر واحد وحيد في عامك الطويل.
حاول أن تكون أيام هذا الشهر فترة للهدوء والتأمل. لحركة العيون وسكنات اللسان. اهرب بنفسك ـ إن استطعت ـ في آخر ساعتين من اليوم الرمضاني الطويل إلى جذع شجرة بعيدة، ثم حاول أن تواجه نهايات شمس اليوم في هذه العزلة بسؤال وحيد: ما الخطأ الأخلاقي الذي وقعت فيه طوال العام، وكيف أستطيع تجاوزه؟ ما الجملة الجارحة التي خرجت من لسانك إلى قريبٍ أو صديق أو حتى عابر سبيل، وكيف ستكون وسيلة الاعتذار، وترميم الجسور؟ وقبل أن يؤذن المغرب بلحظات قرر بنفسك أن تصدر فرمانا بعفو عام شامل عن كل من أساء إليك، ظنا أو وهما أو حقيقة. وعندما تنتهي من صلاة التراويح، جرب أن تتصل مهنئا بآخر من كنت تتوقع ألا تتصل به من قبل.