خلال الأيام القليلة الماضية (تحضيرا لرمضان) نشرت الصحف السعودية تقارير مقلقة عن ارتفاع صاروخي في أسعار الغذاء. وكأن تلك المصادر تريد أن تهيئ المستهلك لارتفاع الأسعار وتوجد شعورا لديه بالقلق، لحمله على الإسراع في التسوق 'قبل فوات الأوان'
في كل عام، ينتهز تجار المواد الغذائية شهر رمضان المبارك فرصة لرفع الأسعار، ونظرا إلى أننا نستورد معظم احتياجاتنا الغذائية من الخارج، يلقون باللائمة على الأسعار العالمية. وقد يكون ذلك صحيحا في بعض السنوات، ولكن رمضان هذا العام يتزامن مع انخفاض في الأسعار العالمية للمواد الغذائية. ومع ذلك فقد ارتفعت الأسعار المحلية هذا العام، بمناسبة شهر الصوم، كعادتها كل عام.
فخلال شهر يونيو، استمرت الأسعار العالمية للمواد الغذائية في الانخفاض، حسب تقرير مفصل أصدرته منظمة الأغذية والزراعة في روما (الفاو)، وهي المنظمة الدولية التي تتخصص في متابعة أسعار الغذاء، والكميات المنتجة منه، في جميع أنحاء العالم.
فحسب تقرير منظمة الفاو الذي صدر يوم الخميس الماضي (4 يوليو)، انخفض مؤشر الأسعار العالمية للمواد الغذائية بنسبة (1) بالمئة خلال شهر يونيو، وهو استمرار لانخفاض أسعار المواد الغذائية الذي بدأ في شهر فبراير 2011، حين بلغت تلك الأسعار أعلى مستوى لها، وبلغ مؤشر الأسعار الكلي للمنظمة مستوى (238). ومنذ ذلك الحين انخفض المؤشر (27) نقطة ليصل إلى (211) في شهر يونيو 2013، أو بنسبة انخفاض بلغت (8) بالمئة.
وسجلت أسعار كافة المجموعات الرئيسية للغذاء (منتجات الألبان، الحبوب، السكر، وزيوت الطعام.. إلخ) تراجعا ملحوظا في مؤشر الفاو. وأرجع التقرير انخفاض المؤشر الكلي بنسبة (1) بالمئة خلال شهر يونيو 2013، إلى انخفاض حاد بنسبة (4) بالمئة في أسعار منتجات الألبان خلال ذلك الشهر، وانخفاض بنسبة (3) بالمئة في أسعار السكر. أما أسعار الحبوب فانخفضت بنسبة (1) بالمئة، في حين انخفضت أسعار زيوت الطعام إلى أدنى مستوى له منذ ستة أشهر.
وفسر تقرير المنظمة انخفاض الأسعار العالمية بأنه عائد بالدرجة الأولى إلى تحسن مستويات الإنتاج الزراعي خلال الفترة الماضية، وهو مرشح للاستمرار خلال المستقبل المنظور. فعلى سبيل المثال، راجعت المنظمة توقعاتها المتفائلة بشأن الإنتاج العالمي للقمح بوقعات أكثر تفاؤلا، حيث تتوقع أن يتجاوز محصول موسم 2013/ 2014 من القمح (704) ملايين طن، بسبب التحسن في ظروف الإنتاج في جميع الدول المنتجة للقمح، عدا الولايات المتحدة. وبالمثل تتوقع المنظمة أن يتجاوز محصول الذرة في الموسم القادم (972) مليون طن.
ونظرا إلى هذا التحسن في ظروف الإنتاج وانخفاض التكلفة فإن المنظمة تتوقع أن تستمر الأسعار في الانخفاض عالميا خلال الأشهر الاثني عشر المقبلة.
وإذا كانت هذه هي الصورة على مستوى العالم، فإن الصورة لدينا عكس ذلك. فوفقا لبيانات مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات، ارتفعت أسعار سلة الغذاء للمستهلك السعودي بنسبة تجاوزت (12) بالمئة، منذ فبراير 2011. وخلال الأشهر الاثني عشر الماضية فقط، ارتفعت أسعارها بنسبة (6.4) بالمئة.
أما خلال الأيام القليلة الماضية (تحضيرا لرمضان) فقد نشرت الصحف السعودية تقارير مقلقة عن ارتفاع صاروخي في أسعار الغذاء خلال هذه الفترة. وليست هناك بيانات رسمية حتى الآن تؤكد ذلك أو تحدد أبعاده، ولكن التقارير الإعلامية (المبنية في كثير من الأحيان على مصادر تجارية ذات مصلحة) تتحدث عن ارتفاعات مستمرة في الأسعار، وكأن تلك المصادر تريد أن تهيئ المستهلك لارتفاع الأسعار وتوجد شعورا لديه بالقلق، لحمله على الإسراع في التسوق قبل فوات الأوان، أي قبل نفاد الكميات أو ارتفاع الأسعار مرة أخرى.
فنشرت وكالة الأنباء الرسمية تقريرا يوم الجمعة (5 يوليو)، تنسب فيه إلى مصادر تجارية غير محددة بالاسم قولها إن أسعار معظم السلع الرمضانية قد ارتفعت بين (10) إلى (15) بالمئة هذا العام عن أسعار العام الماضي. ونشرت صحيفة أخرى عن تاجر قوله إنه رفع أسعار التمور، وهي سلعة رمضان الأولى، بنسبة (15) بالمئة خلال أسبوع واحد. ونشرت صحيفة أخرى يوم السبت (6 يوليو) أن أسعار الطماطم قد تضاعفت خلال أسبوع واحد.
وربما اعتمد بعض هذه التقارير على تجارب شخصية لا تمثل التوجه العام للسلع ولا لجيمع الأسواق، ولكن الحقيقة تبقى بأن بعض تجار الجملة والتجزئة، إن لم يكن معظمهم، يرفعون أسعارهم بمناسبة رمضان.
ولكن تبقى الحقيقة الأخرى، وهي أن رفع الأسعار هذا العام، على الأقل، لا علاقة له بارتفاع الأسعار العالمية للمواد الغذائية، لأن الأسعار العالمية لم ترتفع، بل انخفضت طيلة الأشهر الماضية، وما زالت مستمرة في الانخفاض، كما يوثقه تقرير منظمة الفاو.
لماذا يستطيع التجار، عاما بعد عام، في رفع أسعار المواد الغذائية في رمضان؟
معظم الأسباب تعود لعوامل نفسية وقانونية، ولا علاقة لها بالاقتصاد أو الزراعة. فتجربة المستهلك خلال المواسم الماضية تخلق لديه قلقا بأن الأسعار قد ترتفع بشكل سريع ومفاجئ، وأن الكميات قد لا تعود متوفرة بشكل كاف، مما يدفعه إلى التسوق بصفة مبالغ فيها، لا تتناسب مع احتياجاته الفعلية الآنية، مما يؤدي إلى زيادة وقتية على الطلب ورفع الأسعار. ويغذي هذا القلق التقارير الصحفية التي تتحدث عن نقص في السلع وارتفاع في الأسعار، وهي تقارير في كثير من الأحيان مبنية على تكهنات وتوقعات من أطراف ذوي مصلحة في خلق ذلك الجو.
ومما يسهم في هذه الظاهرة كذلك الوضع شبه الاحتكاري لقطاع الاستيراد، فمعظم السلع المستوردة، بما فيها المواد الغذائية، يوزعها عدد محدود من المستوردين، يمكنهم التحكم بالأسعار والكميات، ويستطيعون خلق الانطباع بوجود شح في المعروض، أو يوحون بوجود ارتفاعات غير حقيقية في أسعار المواد الغذائية المستوردة.
وتتيح هذه التشوهات في سوق المواد الغذائية الفرصة للتجار لرفع الأسعار، مستفيدين من ضعف الأجهزة الرقابية وجمعيات حماية المستهلك، ومن نقص المعلومات لدى المستهلكين عن تحركات الأسعار العالمية والمحلية، والكميات المتوفرة.