المنصفون من المتخصصين في العلوم الشرعية يشهدون لعلماء الشريعة في دول المغرب بالتمكن وغزارة العلم، غير أنهم لا يحظون كالعلماء المشارقة بالشهرة الإعلامية اللائقة بهم

يهتم علماء الشريعة الإسلامية المشارقة بالقسم الأول من أقسام العلوم الشرعية؛ وهو قسم العلوم الأساسية، أو ما يسمى بالعلوم الأصلية من عقيدة وفقه وتفسير وحديث، أما العلماء الشرعيون من المغاربة فيمتد اهتمامهم ليشمل القسم الثاني من العلوم الشرعية، وهو قسم علوم الآلة، أو ما يسمى بالعلوم المساعدة كأصول الفقه، وهو ما يتعلق بأدلة الفقه الإجمالية، والقواعد الفقهية، وهو ما يتعلق بالقواعد الشرعية الشاملة، واللغة العربية، وهو ما يتعلق بالنحو والصرف والأدب والشعر والاشتقاق، وغير ذلك كعلم المنطق وخلافه.. الاهتمامان السابقان أثرا في المشارقة والمغاربة في آن واحد؛ فالمشارقة ـ وحسب الغالب ـ لا يحبون الاستماع كثيرًا، ويحبون فرض آرائهم على من حولهم، أما المغاربة ـ إلا ما ندر ـ فعلى العكس تمامًا..
المنصفون من المتخصصين في العلوم الشرعية يشهدون لعلماء الشريعة في دول المغرب بالتمكن وغزارة العلم، غير أنهم لا يحظون كالعلماء المشارقة بالشهرة الإعلامية اللائقة بهم، ولا يحظون كذلك بالمتابعة التي يستحقونها من طرف الوسائل الإعلامية، ويكاد أكثرهم يكون في منأى عن المشاركة الفاعلة في تشكيل الرأي العام، رغم التمكن الذي ذكرته، والخصائص والمؤهلات التفصيلية الهامة والهائلة التي يتميزون بها، مثل براعتهم في علم الخلاف ـ الحجج عندهم لا تكون إلا بالبراهين وبالمنطق ـ ولذلك نجد أن بيئتهم العلمية في غالبها أقل احتضانا للصراعات، وأكثر استيعابًا للمفاهيم، وبراعتهم كذلك في التوسع في العلوم؛ فالواحد منهم لديه من الهمة العالية ما يجعله يطرق كل علم، ويحيط بجوانب متعددة من المعارف.
لقد بلغ عدد غير قليل من المغاربة الشرعيين مبلغًا كبيرًا من النضج الفكري، بفضل ما منحهم الله من موهبة القدرة على استقراء النصوص، وقوة التصرف فيها، وحسن توجيهها، واستنباط الدقائق منها؛ لهم اختياراتهم ولهم ترجيحاتهم التي قد يخالفون بها مذاهبهم الفقهية.. ومما تميز به المغاربة وبوضوح حسن التعامل مع المستجدات والنوازل، وإتقان النظر فيها، ومواكبة المتغيرات باستعمال أدوات الاجتهاد، ويدل على هذه الجزئية الهامة كثرة تأليف المغاربة في النوازل والأحكام، والتي ما كانت لتدون لولا العقلية العلمية اليقظة، والقدرة الفائقة على التعامل مع المستجدات، وحسن التصرف فيها من خلال إرجاع النظير إلى نظيره، والفرع إلى أصله، ومن خلال إعمال الفكر في النصوص واستنتاج الأحكام المناسبة واستنباط القواعد الملائمة والتفاعل مع الآراء الواردة للخلوص إلى الرأي المناسب؛ إما جريًا مع مصلحة، أو منعًا لمفسدة، أو تماشيًا مع ضرورة، دون تحجر لرأي مشهور، أو جمود على نص من النصوص، بل ربما إذا اقتضى الحال أفتوا بالمرجوح والشاذ والضعيف.
ومن هذه المؤلفات على سبيل المثال كتاب (مذاهب الحكام في نوازل الأحكام) للقاضي عياض ـ دفين (مراكش) ـ الذي جمعه ابنه القاضي محمد، وهو كتاب أنموذج للمؤلفات الفقهية التي تهتم بوقائع الناس الجارية ومشكلاتهم الناشئة، وأقضيتهم الطارئة، وقد ضم مجموعة من النوازل التي كشفت عن وقائع الحياة اليومية بالمغرب والأندلس إبان عهد المرابطين، والأحكام المناسبة لهم..
أقولها بكل صراحة؛ إنني كمتخصص في العلوم الشرعية أجد سهولة كبيرة في النقاش مع المتخصص الآخر في الدراسات الشرعية إذا كان من علماء المغرب العربي، ولا أجدها ـ غالبًا ـ عندما أتناقش مع المتخصصين الشرعيين من علماء المشرق العربي، للخصائص التي ذكرتها، وكلاهما عينان في رأس.