بعض الجامعات الناشئة توسعت في برامج الدراسات العليا، وكأنها الوظيفة التدريسية الأساسية لهذه الجامعات، ولم تدرك أن برامجها لمرحلة البكالوريوس ما زالت بحاجة لجهود كبيرة من التقويم، والتطوير
في السنوات الأخيرة زاد الطلب على الالتحاق ببرامج الدراسات العليا لدى أفراد المجتمع، ونتج عن ذلك ضغط من المجتمع على الجامعات في هذا المجال، ولذلك بدأ الكثير من الجامعات الناشئة - على وجه الخصوص - تتسابق سباقا محموما في تقديم برامج دراسات عليا في كثير من التخصصات، وهنا لي وقفة مع زيادة الطلب غير المسبوق من كثير من أفراد المجتمع على الدراسات العليا، بل غير المقبول أيضاً، ومن دون حاجة ملحة لذلك، كما لي وقفة أخرى مع الجامعات، خاصة الناشئة منها، فيما يتعلق بالبدء في عدد من برامج الدراسات العليا دون التأكد من جاهزية الكثير من الأقسام لتقديم مثل هذه البرامج. وفيما يتعلق بالوقفة الأولى المتمثلة في الإقبال على الدراسات العليا بشكل كبير قد يمكن تفسيره، أو تقديم تبريرات له بأنه نتيجة لزيادة السكان، وهذا قد يكون مقبولا في حالة أن نسبة الإقبال موافقة لنسبة الزيادة في عدد السكان، وهنا قد تكون نسبة الإقبال، بل نسبة الالتحاق ببرامج الدراسات العليا أعلى بكثير عن النسبة العالمية، والسبب الآخر الذي قد أعتبره مقبولا ومنطقيا إذا كان الهدف من الالتحاق ببرامج الدراسات العليا بهدف تطوير الفرد لمعرفته، ولمهاراته، ولخبراته، ولينعكس ذلك على أدائه في عمله، ولكن في كثير من الأوقات يكون الهدف من الالتحاق بهذه البرامج هو الحصول على الشهادة بالدرجة الأولى إما للبرستيج، أو للترقية الوظيفية فقط في مجال العمل، وليس الهدف للتعلم والاستفادة مما يقدم في هذه البرامج، إذا كان بمحتواها جديد. ولذلك لا نريد أن يكون أغلب أفراد المجتمع يحملون شهادة الماجستير، والدكتوراه من دون حاجة فعلية لذلك، وفي كثير من الأوقات أصبحت الشهادات العليا غاية للحصول على وجاهة في المجتمع، لا وسيلة لتطوير قدرات الفرد العلمية، ومهاراته، وخبراته. وهناك عدة أسئلة لا بد من طرحها في هذا المجال: هل هناك ضرورة ملحة للتوسع في برامج الدراسات العليا؟ وهل حصول نسبة كبيرة من أفراد المجتمع على شهادات الماجستير والدكتوراه مطلوب، وضروري؟ وماذا يترتب على حصول كثير من أفراد المجتمع على الشهادات العليا من دون الحاجة لها؟ ولن أخوض بالتفصيل محاولا الإجابة عن الأسئلة السابقة، ولكن أترك المجال للقارئ الكريم للوصول إلى الإجابة عنها بنفسه، نظرا للمساحة المخصصة للمقال، هذا بالإضافة إلى أن هذا التوسع لم يواكبه تخطيط لاستيعاب مخرجات هذه البرامج التي بدأت تضغط على جهات مختلفة لإيجاد وظائف مناسبة لمستوياتهم العلمية الجديدة التي في أغلب الأوقات قد لا نحتاجها، وفي كثير من الأوقات نجد أن بعض الأفراد يدرسون الماجستير أو الدكتوراه ومن ثم لم يستفيدوا منها بأي شكل من الأشكال، وهذا قد يكون نتيجة لعدم التخطيط السليم لديهم، كما أننا لا نريد مجتمعا جميع أفراده يحملون شهادات عليا بهدف الوجاهة، أو تحسين الوضع الوظيفي غير المطلوب، أو تكون هذه الدرجات العلمية في مجالات بعيدة عن التخصص الأساس للفرد.
أما بعض الجامعات الناشئة فقد توسعت في برامج الدراسات العليا بشكل ملحوظ، وكأن الدراسات العليا هي الوظيفة التدريسية الأساسية لهذه الجامعات، ولم تدرك أن برامجها لمرحلة البكالوريوس ما زالت بحاجة لجهود كبيرة من التقويم، والتطوير، والتحسين. وهنا أرى أن اهتمام هذه الجامعات يجب أن يكون منصبا على مرحلة البكالوريوس بالدرجة الأولى، والعمل على الحصول على الاعتماد الأكاديمي لبرامجها بما يضمن تحقيق الجودة لمدخلاتها، وعملياتها، ومخرجاتها، ومن ثم البدء في التفكير بتطوير برامج دراسات عليا نوعية، وفي التخصصات التي تسهم في تحقيق أهداف التنمية. وحقيقة الأمر أن برامج الدراسات في كثير من هذه الجامعات ما هي إلا نسخة معدلة بعض الشيء من برامج الجامعات الأخرى، وفي التخصصات نفسها، ولذلك قد تكون المخرجات متقاربة في المستوى والتخصص. وهنا أرى أن هذا التوسع بحاجة لإعادة نظر، من حيث الاحتياج الحقيقي، وبناء على ذلك يتم فتح البرامج التي نحتاجها فعلا، وأن يتم تطوير محتوى هذه البرامج بما يتوافق مع الواقع الحالي، ويصاحب ذلك تطوير حقيقي لطريقة تنفيذ هذه البرامج وتدريسها، بحيث يكون هناك تغيير من مفهوم التدريس والتعليم إلى مفهوم التعلم الذي يقوم به طالب الدراسات العليا تحت إشراف وتوجيه أعضاء هيئة التدريس، والمشرف عليه، وعلى الطلاب الملتحقين بهذه البرامج أن يدركوا أنهم يعملون في مرحلة مختلفة تماماً عن مرحلة البكالوريوس، وعملية التدريس، والتعليم، والتعلم مختلفة عما يتم في المراحل التعليمية السابقة، ويتوقع منهم أن يتعلموا بأنفسهم بدلا من الاعتماد على المحاضر لتقديم المعلومات لهم جاهزة، لأن مرحلة الدراسات العليا تعتمد بدرجة كبيرة على التعلم، والبحث، والتقصي الذاتي، فهي بذلك تعتمد بالدرجة الأولى على المتعلم نفسه، كما أن نوعية الرسائل التي يتم إنجازها لاستكمال متطلبات هذه البرامج بحاجة لإعادة نظر، من حيث الموضوعات، ومن حيث تنفيذها، فقد تفتقر في كثير من الأوقات إلى الجدة، والأصالة، وتكون تكرارا لما تم بحثه في الماضي البعيد أو القريب، ولذلك لا تكون لها أي إضافة علمية تذكر، وهذا الجانب بحاجة إلى اهتمام كبير، وتقييم من المسئولين عن الدراسات العليا على مستوى الأقسام. وهنا أتمنى ألا يكون التوسع الكبير، والمتسارع في هذه البرامج على حساب النوعية، والكيفية، أو تكون هذه البرامج نسخة مكررة لما يقدم في برامج المرحلة الجامعية (البكالوريوس)، ومن هنا فلا جديد في برامج الدراسات العليا في مثل هذه الحالات.